خبر : "الأونروا" : التعايش مع أربع حكومات في غزة.. السؤال المتجدد عن الدور ..حسين حجازي

السبت 22 فبراير 2014 09:25 ص / بتوقيت القدس +2GMT
"الأونروا" : التعايش مع أربع حكومات في غزة.. السؤال المتجدد عن الدور ..حسين حجازي



كان سور المدرسة الصناعية الذي يبدو اليوم بناءً متقادماً ولكنه صلب . مدرسة الصناعة مفخرة الخدمة التعليمية المهنية التي تقدمها وكالة الغوت الأونروا للفلسطينيين الغزيين، كان هو آخر المشاريع التي نفذها والدي بالتعاون مع الوكالة بعيد الاحتلال الإسرائيلي لغزة العام 1967 .
لقد اعتقد ان الإسرائيليين لن يمكثوا طويلا كما حدث في الحرب السابقة العام 1956، ولذا اختار العمل مع الوكالة بدل العمل في ظل الإدارة المدنية للاحتلال .
وهكذا في العام 1969 سوف نمضي وقت الإجازة الصيفية كما كنا نفعل من قبل في الذهاب الى هناك، وحين عدت الى المدينة شيءٌ ما أثار ذهولي وصدمتي من حجم التغيير الذي أصاب المكان. لقد اختفت التلال الرملية الصفراء ولكن العذراء والبكر، التي اصبح اليوم مكانها الجامعة الإسلامية بمبانيها الضخمة المترامية . وكانت تحدها من الجهة المقابلة كروم العنب التي كنا نقطف عناقيدها، وتفصل عن نقطة السور الجنوبية سجن الأحداث الذي كان يسمى (الإصلاحية) . والى الشمال اين ذهبت بقايا غابة المشتل؟ شجيرات الكينا الجميلة، وحيث بمحاذاتها أقامت الوكالة سلسلة مدارسها للصفوف الابتدائية والإعدادية قرب نهاية عقد الخمسينيات .
وعندما نصل في البناء الى هذا المنعطف الذي يشبه الزاوية من الجهة الشرقية الشمالية، فقد تكون هذه هي البقعة من المدرسة مترامية الأطراف، التي كانت على ما اذكر مكانا لسكن مدير المدرسة او هكذا أظن، او ربما مقرا لمكاتب إدارته .
وهو الآن المبنى الأصفر الجميل الذي استقرت فيه مفوضية الوكالة وإدارة عملياتها او مقر قيادتها في العام 1996. بعد ان كان مقر قيادة عملياتها في بيروت أولا وبعد ذلك في فِيَنّا عاصمة النمسا، التي عاش فيها شتراوس والف سمفونيته الخالدة على نهرها "الدانوب الأزرق" .
ولقد كان نقل المقر من فينا الى غزة احد الأهداف الاستراتيجية التي سعى عرفات الى تحقيقها بعيد إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية العام 1994، وقد حقق هذا الهدف بمساعدة الأمين العام للأمم المتحدة في ذلك الوقت بطرس غالي، حيث أدرك عرفات الأهمية الحاسمة مبكرا لوجود المفوضية العامة للوكالة، وممثل الأمين العام للأمم المتحدة فيما يتعلق بقضية اللاجئين، بجوار مقر قيادته وعملياته غير بعيد من هنا في المنتدى على شاطئ البحر، بينما يسعى حثيثا لإرساء وتدعيم مداميك الدولة الفلسطينية العتيدة. وهكذا سوف ينسج صداقة وتحالفا قويا مع بيتر هانس مفوض الوكالة في ذلك الوقت .
"لقد حضرت هذا اللقاء شخصيا"، سوف يقول محدثي الصديق عدنان ابو حسنة المستشار الإعلامي للمفوضية العامة لوكالة الغوث "كان عرفات يمسك بيد هانس ويشد عليها بكلتا يديه، ليس من قبيل العلاقات العامة ولكن تعبيرا مخلصا عن امتنانه البالغ للتعاون الذي أبداه هذا المفوض العام للوكالة لتحقيق هذا الهدف"، كما لاحظ عدنان.
لقدر قدر عرفات عند هذا الحين أهمية الدور التاريخي الذي قامت به الوكالة في الحفاظ على قضية اللاجئين الفلسطينيين، اقله بعلة وجودها وان كانت إرادة الأطراف الذين أنشؤوها ربما لم تهدف الى تحقيق هذه الغاية. وحتى بالرغم كذلك من ان مغزى الثورة التي اطلقها عرفات ورفاقه في حركة فتح العام 1965، كان يرمي أساسا الى تحويل الفلسطينيين من كونهم مجرد لاجئين يتلقون المساعدات على أعتاب وكالة الغوث، الى شعب من الأحرار والمقاتلين.
وكانت اللحظة التاريخية الفاصلة لإعادة موضعة دور الوكالة في إطار خطة عرفات واستراتيجيته، انما هي توقيع اتفاقية أوسلو التي اعتبرها عرفات بداية الانتقال الى الهجوم المعاكس لمحو آثار النكبة الفلسطينية العام 1948، مع عودة عرفات من المنافي الى ارض الوطن فلسطين لأول مرة، وكأن الرجل أراد بإعادة مقر الوكالة الى هنا في غزة إرجاع عقارب الزمن الى الوراء، عند النقطة التي توقفت باغتيال الكونت برنادوت على يد عصابة شتيرن اليهودية، لأنه قال إن طرد اللاجئين الفلسطينيين وهم السكان الأصليون لهذه البلاد هي إهانة لمبادئ العدالة. ويجب العمل الآن على إعادتهم الى قراهم ومدنهم، لأن ما سيحدث في المستقبل هو عملية إحلال واستئصال للفلسطينيين لن تتوقف.
هيا اذن وقد حان الوقت بإنشاء أول سلطة وطنية للفلسطينيين على ارضهم، استعادة روح ونبض هذا الدور الأخلاقي الذي دفع برنادوت حياته ثمنا في الدفاع عنه. وهذا هو الهدف المشترك للسلطة الوطنية الفلسطينية ووكالة الغوث كما فكر عرفات.
هنا في شتاء ماطر وتكتنفه البرودة قبل سنتين، يصطحبني ابني لزيارة مقر المفوضية العامة للوكالة، ولكن بينما كنا نحتسي أكواب الشاي الساخنة اللذيذة التي أعدتها على عجل إحدى مساعدات الصديق عدنان أبو حسنة، جريا على عادة التقاليد الجميلة للمرأة الفلسطينية في الضيافة، فإننا لم نتحدث كثيرا في شؤون ومشاغل الوكالة، إذ كانت الأزمة السورية المشتعلة والنقاش حول مآلاتها هي التي غطت على أي شاغل آخر واستغرقت معظم حديثنا. ولكن السؤال عن القصة الرئيسية الذي تناقشنا حولها في نهاية لقائنا، عما يعتقده الشاغل الرئيسي للوكالة اليوم، ظل منذ ذلك الحين معلقا كما الجواب عليه .
عندما كنا نأتي الى هذا المكان هنا في تلك الصباحات سيرا على الأقدام أحياناً، لم يكن سوى الهدوء الذي يصل الى حد السكون والصمت التام ما يميز المكان، وبينما كان يثير فضولنا المباني الحديثة على الطراز الغربي، التي كانت تضم الورش الصناعية المتباعدة نسبيا في هذا الفراغ، الا انه لم يكن من المعتاد ان يتراءى أي مظهر للحركية او ضجيج للأصوات، يشق سكون هذه الوحدة المنعزلة المغلقة على نفسها للمكان. ولقد كان هذا هو الحال أيضا في الخارج على مستوى نظرة الناس الغزيين في ذلك الوقت للوكالة، في ظل الفورة الاقتصادية التي وفرها سوق العمل الإسرائيلي، أمام الشبان والرجال القادرين على العمل وحتى النساء والأطفال.
وكان من النادر ان يستطيع المقاول المحلي ان يجد عمالا او مهنيين بأجور تنافس السوق الإسرائيلية، وما كان للغزيين آنذاك الاهتمام او الاكتراث كثيرا كما يفعلون اليوم بمستوى الخدمات والمساعدات التي تقدمها الوكالة، وحيث بدأت محطات الإذاعة المحلية استضافة عدنان ابو حسنة على فترات متواترة لكي يجيب على شكاوى وأسئلة الجمهور.
فقد ولى ذلك العهد المغرق في الزمن، في عقدي الخمسينات والستينات، حينما كان يذهب الرجال والزوجات الى مراكز التموين كل اول شهر، يحملون معهم البطاقة السحرية ينتظرون في طابور احتفالي أشبه باحتفالات المواسم البهيجة، استلام المواد التموينية التي كانت تشتمل حتى على التمور والزيوت والوقود والبطانيات والثياب، الى جانب الطحين والسكر والأرز والبقوليات. يدخنون السجائر ويتبادلون الأحاديث الضاحكة بانتظار العودة ثانية في المرة القادمة.
كانت "أمنا الرؤوم" كما أسميناها في كتاباتنا حين كنا لا نزال بعد في المنفى، وحيث ما كان للفلسطينيين وقد وجدوا انفسهم بعد النكبة في العراء، من ام ترعى شقاءهم سوى وكالة الغوث، وحيث تعلمنا أولادا في مدارسها حتى قطعنا هذه الطريق الالتفافية، التي تشبه سور الصين العظيم من الجهة الجنوبية الغربية، التي تحد عناقيد كروم العنب القديمة على السفوح الرملية حتى الشمال الشرقي في تقاطع شارع الثلاثيني الصناعة، او شارع جمال عبد الناصر كما هو اسمه الحقيقي .
من زمن عبد الناصر اذن عهد الإدارة المصرية في غزة، الى زمن الاحتلال الإسرائيلي حتى زمن ياسر عرفات السلطة الوطنية وانتهاء بعهد حماس، تعايشت الوكالة في غزة مع أربعة عهود مختلفة. فهل هي الحقيقة إذن او يتراءى لنا ان سماع الجلبة والضوضاء، الصراخ والعويل الذي يتردد صداه الآن عاليا في الشارع الذي يفصل الجامعة الإسلامية عن مبنى الوكالة من جهة السور الشمالي الغربي لمقرها الرئيسي، انما يتم وللأسف في عهد الحكومة الرابعة في غزة أي في ظل العلاقة المتوترة بين الوكالة وحماس ؟ لكن هل الأزمة الحقيقية التي تمر بها العلاقة بين الوكالة والغزيين هنا ذات صلة فعلية بنوع الإدارة الحاكمة في غزة الآن الإدارة السلطة السياسية؟ ام انه في خلفية هذا التأزم ثمة صدى شعور دفين يختفي أحيانا ويبرز في ظروف محددة أحيانا أخرى، ومفاده اعتقاد بعض الفلسطينيين ان إقامة الوكالة بحد ذاته منذ البداية، إنما يمثل مؤامرة دولية شريرة وغامضة لتصفية قضية اللاجئين، وان هذا الشعور او الاعتقاد بالمؤامرة انما يزدهر وينمو في الظروف التي تزداد فيها وطأة المعانات الاقتصادية والمعيشية، كما هو الحال اليوم في ظل الحصار الذي يعاني منه اللاجئون الغزيون في ظل حكومة "حماس"، وهو أمر لا شأن مباشرا لحماس فيه.
ماهي القصة المحورية إذن سيد عدنان ابو حسنة أو المستشار الإعلامي للوكالة ؟ هي في هذا الفهم الملتبس للدور، وهو ما سنحاول الإجابة عليه في بقية القصة. وللحديث إذن بقية.