خبر : في البحث عن الذاكرة ...بقلم: د.عاطف أبو سيف

الإثنين 12 أغسطس 2013 04:52 م / بتوقيت القدس +2GMT
في البحث عن الذاكرة ...بقلم: د.عاطف أبو سيف



يوضح الهجوم الإسرائيلي الاخير على الرئيس محمود عباس، والذي كشفه نتنياهو برسالته لوزير الخارجية الاميركي جون كيري، عمق الصراع على ذاكرة المكان واهمية الحفاظ على هذه الذاكرة وتطوير استخدامها في الخطاب السياسي الوطني كما في الجدل اليومي من أجل الحفاظ عليها، حتى تأتي لحظة تتطابق فيها مع الواقع حتى لو كان ذلك بعد اجيال بعيدة. نتنياهو كما هي إسرائيل تريد تغيير حتى ذاكرة هذا الشعب، تريد تشويه صورته عن نفسه، ذكرياته عن لحظاته الجميلة، تخيلاته عن المكان الذي يشكل فردوسه المفقود؛ لأن الحلم يأخذ وقوده من بهاء ونضارة الذاكرة.

إسرائيل اجتهدت في نسب كل أسماء الاماكن الفلسطينية إلى بدائل وجذور توراتية، مستخدمة في مرات تشابها مزعوما في النطق مع نظير عبراني، وفي مرات معيدة الى الكتابة القديمة، وفي ثالثة مرتكزة على نص توراتي لا يعرف أحد إن كان فعلاً قد حدث في فلسطين.
وإذا اعياها الجهد قامت بتلفيق حكاية ما لرحالة اوروبي او لكاهن قديم، او لقصة معاصرة. أي شيء، المهم ان لا يتم تذكر المكان كما كان في سابق عهده. لذا يؤلم نتنياهو أن الفلسطينيين مازالوا يعتقدون أن صفد فلسطينية ولن تكون غير ذلك حتى لو ظل عمر إسرائيل مليون سنة، وان يافا لا يمكن لها أن تصبح تل أبيب وأن الناصرة هي عاصمة الجليل الفلسطيني حتى لو قاموا ببناء "ناصريت عليت".
في المقابل نحن ماذا نفعل من اجل الحفاظ على هذه الذاكرة!
في الفترة الاخيرة تم توزيع خرائط لفلسطين ملونة بحجم كبير تعلق على جدران البيوت، لا يوجد اسم الجهة التي قامت بطباعتها، لكن من السهل الاستدلال على أنها إما تابعة لحركة حماس او للحكومة في غزة على الاقل من المحتوى السياسي لها. على شمال الخارطة ثمة سرد لوقائع الأحداث التاريخية في فلسطين تبدأ بفتح بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب العام 16 هجري ثم احتلالها من قبل الصليبيين عام 1099 وتحريرها على يد صلاح الدين سنة 1187 ومن ثم الأحداث المعاصرة من ثورة يافا عام 1921 والنكبة والنكسة والانتفاضة الاولى والثانية وبعدهما "معركة الفرقان" و "معركة سجيل" (لاحظ أن الجهاد الإسلامي يطلق على عدوان إسرائيل الاخير على غزة "معركة السماء الزرقاء").
اختصار مؤلم للذاكرة الوطنية وللحروب العظيمة التي خاضها شعبنا والشعوب العربية دفاعاً عن فلسطين من حرب الكرامة التي كانت اول مرة في التاريخ المعاصر ينتصر فيها الشعب الفلسطيني على عدوه إلى حرب تشرين 1973 التي شكلت انتصاراً للجيوش العربية على الجيش الإسرائيلي إلى حرب لبنان العام 1982 التي تجسد إلى جانب بطولات الشعب الفلسطيني في اطول حصار عاشه، بطولة الشعب اللبناني وتضحيته. وبدلاً من أن نعلم أطفالنا بطولات شعبهم والشعوب العربية نريد اختصار ذاكرتهم وفق أجندة حزبية.
بالطبع من حق أي فرد، ناهيك عن تنظيم او قوة سياسية، ان يكون لها أحداثها التاريخية التي تعتز بها، وروايتها التي تعتقد بأهميتها. وقد يشمل هذا محطات تاريخية مهمة في تاريخ التنظيم أو قادته، بجانب ما يعتقد أنه الأهم بالنسبة لتاريخه الوطني. لكن ليس من حق أحد ان يقوم بتغيير الذاكرة الجماعية للشعب من اجل تعظيم الحزب او الحركة، ويتم ليّ عنق التاريخ لكي يعاد ترتيب الأحداث وفق شهوات حزبية بحتة. عندها لابد من وقفة مراجعة. الشيء ذاته يمكن أن يقال عن التشويه السيئ الذي يجري على الأغنية الوطنية وعلى التراث والفلكور الشعبي حين يتم تنميطه ضمن نسق حزبي، حيث تعاد صياغة كلماته لتتوافق مع تمجيد هذه الحركة او هذا الحزب. وفي كل ذلك يتم تناسي الذاكرة الجماعية التي تمتد لمئات السنين والتي بالطبع هي اكبر وأقدم وأهم من كل ما وجد على هذه الأرض من تنظيمات.
لصيق بهذا، مؤخراً انتشرت على صفحات التواصل الاجتماعي صورة لنصب الرئيس ياسر عرفات في العاصمة الاوكرانية كييف. النصب عبارة عن تمثال للرئيس أبو عمار جالساً بكامل هيئته. ازيح الستار عن التمثال قبل أيام وهو من تصميم الفنان الفلسطيني "جمال بدوان" والفنان الاوكراني دانيل نوكلاي. بالطبع الخبر يسعد ويثلج صدور الفلسطينيين لأن تمثالاً لياسر عرفات، بكل تأكيد، ليس تكريماً للرجل الذي أفنى عمره بحثاً عن فلسطينيته ودفاعاً عنها، وجسد بكوفيته نضال هذا الشعب وآلامه؛ بل هو تكريم للنضال التحرري الوطني الفلسطيني وللمطالب الشرعية للشعب الفلسطيني في بلاده وللتاريخ الطويل من الثورة والكفاح المسلح والصراع في كل زاوية وحارة وزقاق في العالم لمجابهة سياسات إسرائيل وفضحها.
بالطبع تكريم ياسر عرفات يمتد في مدن وبلدان عدة في العالم من اميركا اللاتينية لأفريقيا وأوروبا.
وهو تكريم يذكّر العالم بهذا النضال البطولي لشعب تآمرت عليه قوى كبرى من اجل جعله شيئاً من الماضي، تذكاراً من الشعوب التي ذهبت مع ريح النسيان. شعب وجدت المنظمة الدولية من اجل تشريع ضياع بلاده ولم تتمكن بعدها من الحفاظ على جزء قليل من هذا الحق المهضوم. بل إن التكوين الدولي بشكله بعد انهيار نظام الامبراطوريات في بداية القرن العشرين تأسس على فكرة سرق بلاده. اما كيف نحافظ نحن على هذه الذاكرة فلا أحد يعرف. فقط علينا ان نتذكر كيف كانت تباع تذكارات وانوطة وميداليات ياسر عرفات بشواكل قليلة في سوق فراس قبل خمسة أعوام بعد نهب مكتبه. أيضاً كيف تحول المنتدى الذي كان يشكل مركز صنع القرار الفلسطيني إلى استراحة وشاليه على البحر.
أظن أن ثمة الكثير الذي يجب فعله من اجل استعادة القليل من بريق الذاكرة العظيمة التي ورثناها من أجدادنا عن فلسطين الجميلة، عن تلك الارض التي يوجد بها ما يستحق الحياة له ولأجله ومعه، وان الكثير الذي يجب فعله من اجل ان نرتقي بهذا الذاكرة عن صراعاتنا ونعتقها من براثن انفصالنا وطلاقنا السياسي، كي لا يأتي يوم بعد زمن بعيد يصير فيه البحث عن هذه الذاكرة مثل البحث عن قشة في كومة رمل، ويكون القطار قد فات.