خبر : صمت من أجل غزة! ... محمود درويش

الأربعاء 11 أبريل 2012 08:31 م / بتوقيت القدس +2GMT
صمت من أجل غزة!  ... محمود درويش



تحيط خاصرتها بالألغام .. وتنفجر .. لا هو موت .. ولا هو انتحارانه أسلوب غـزة فی إعلان جدارتها بالحياةمنذ أربع سنوات ولحم غـزة يتطاير شظايا قذائفلا هو سحر ولا هو أعجوبة، انه سلاح غـزة فی الدفاع عن بقائها وفی استنزاف العدوومنذ أربع سنوات والعدو مبتهج بأحلامه.. مفتون بمغازلة الزمن .. إلا فی غـزةلأن غـزة بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء .. لأن غـزة جزيرة کلما انفجرت، وهی لا تکف عن الإنفجار،خدشت وجه العدو وکسرت أحلامه وصدته عن الرضا بالزمن.لأن الزمن فی غـزة شيء آخر ..لأن الزمن فی غـزة ليس عنصراً محايداً انه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل... ولکنه يدفعهم إلى الإنفجار والارتطام بالحقيقة.الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة ولکنه يجعلهم رجالاً فی أول لقاء مع العدو ليس الزمن فی غـزة استرخاء ولكنه اقتحام الظهيرة المشتعلةلأن القيم فی غـزة تختلف .. تختلف .. تختلفالقيمة الوحيدة للانسان المحتل هی مدى مقاومته للإحتلال... هذه هی المنافسة الوحيدة هناك.وغـزة أدمنت معرفة هذه القيمة النبيلة القاسية .. لم تتعلمها من الکتب ولا من الدورات الدراسية العاجلةولا من أبواق الدعاية العالية الصوت ولا من الأناشيد. لقد تعلمتها بالتجربة وحدها وبالعمل الذی لا يکونإلا من أجل الاعلان والصورةان غـزة لا تباهى بأسلحتها وثوريتها وميزانيتها. انها تقدم لحمها المر وتتصرف بإرادتها وتسکب دمهاوغزة لا تتقن الخطابة .. ليس لغزة حنجرة ..مسام جلدها هي التی تتکلم عرقاً ودماً وحرائق .من هنا يکرهها العدو حتى القتل . ويخافها حتى الجريمة . ويسعى إلى إغراقها فی البحر او فی الصحراء او فی الدممن هنا يحبها أقاربها وأصدقاؤها على استحياء يصل إلى الغيرة والخوف أحياناً . لأن غزة هی الدرس الوحشي والنموذج المشرق للاعداء والاصدقاء على السواء .ليست غزة أجمل المدن ..ليس شاطئها أشد زرقة من شواطئ المدن العربيةوليس برتقالها أجمل برتقال على حوض البحر الأبيض .وليست غزة أغنى المدن ..وليست أرقى المدن وليست أکبر المدن. ولکنها تعادل تاريخ أمة. لأنها أشد قبحاً فی عيون الأعداء، وفقراً وبؤساً وشراسة. لأنها أشدنا قدرة على تعکير مزاج العدو وراحته، لأنها کابوسه، لأنها برتقال ملغوم، وأطفال بلا طفولة وشيوخ بلا شيخوخة، ونساء بلا رغبات، لأنها کذلك فهی أجملنا وأصفانا وأغنانا وأکثرنا جدارة بالحب.نظلمها حين نبحث عن أشعارها فلا نشوهن جمال غزة، أجمل ما فيها انها خالية من الشعر، فی وقت حاولنا أن ننتصر فيه على العدو بالقصائد فصدقنا أنفسنا وابتهجنا حين رأينا العدو يترکنا نغنی .. وترکناه ينتصر ثم جفننا القصائد عن شفاهنا، فرأينا العدو وقد أتم بناء المدن والحصون والشوارع .ونظلم غزة حين نحولها إلى أسطورة لأننا سنکرهها حين نکتشف أنها ليست أکثر من مدينة فقيرة صغيرة تقاوموحين نتساءل: ما الذي جعلها أسطورة؟سنحطم کل مرايانا ونبکي لو کانت فينا کرامة أو نلعنها لو رفضنا أن نثور على أنفسناونظلم غزة لو مجدناها لأن الافتتان بها سيأخذنا إلى حد الانتظار، وغزة لا تجیء الينا غزة لا تحررنا ليست لغزة خيول ولا طائرات ولا عصى سحرية ولا مکاتب فی العواصم، ان غزة تحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا ومن غزاتها فی وقت واحد وحين نلتقی بها – ذات حلم – ربما لن تعرفنا، لأن غزة من مواليد النار ونحن من مواليد الانتظار والبکاء على الديارصحيح ان لغزة ظروفاً خاصة وتقاليد ثورية خاصةولکن سرها ليس لغزا: مقاومتها شعبية متلاحمة تعرف ماذا تريد (تريد طرد العدو من ثيابها)وعلاقة المقاومة فيها بالجماهير هی علاقة الجلد بالعظم. وليست علاقة المدرس بالطلبة.لم تتحول المقاومة فی غزة إلى وظيفة و لم تتحول المقاومة فی غزة إلى مؤسسةلم تقبل وصاية أحد ولم تعلق مصيرها على توقيع أحد أو بصمة أحدولا يهمها کثيراً أن نعرف اسمها وصورتها وفصاحتها لم تصدق أنها مادة أعلامية، لم تتأهب لعدسات التصوير ولم تضع معجون الابتسام على وجهه.لا هی تريد .. ولا نحن نريدمن هنا تکون غزة تجارة خاسرة للسماسرة ومن هنا تکون کنزاً معنوياً واخلاقياً لا يقدر لکل العربومن جمال غزة أن أصواتنا لا تصل إليها لا شيء يشغلها، لا شيء يدير قبضتها عن وجه العدو، لا أشكال الحکم فی الدولة الفلسطينية التی سننشئها على الجانب الشرقی من القمر، أو على الجانب الغربی من المريخ حين يتم اکتشافه، انها منکبة على الرفض .. الجوع والرفض والعطش والرفض التشرد والرفض التعذيب والرفض الحصار والرفض والموت والرفض.قد ينتصر الأعداء على غزة (وقد ينتصر البحر الهائج على جزيرة قد يقطعون کل أشجارها)قد يکسرون عظامهاقد يزرعون الدبابات فی أحشاء اطفالها ونسائها وقد برمونها فی البحر أو الرمل أو الدم ولکنهالن تکرر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعموستستمر فی الانفجارلا هو موت ولا هو انتحار ولکنه أسلوب غزة فی اعلان جدارتها بالحياة ...فاصلة:وستستمر فی الانفجارلا هو موت ولا هو انتحار ولکنه أسلوب غزة فی اعلان جدارتها بالحياة.