أكد الكاتب الصحافي ـ البريطاني ديفيد هيرست، في مقال بموقع “ميدل إيست أي” (عين الشرق الأوسط) الذي يديره، “إن رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بات يفقد مزيدا من الأوراق بعد وقف إطلاق النار في لبنان”.
وحذر هيرست من القراءة الخاطئة للشرق الأوسط ومسعى نتنياهو بتحويل انتباه ترامب نحو الحاجة إلى مهاجمة إيران، وذلك جريا على عادته في الهروب من المشاكل.
ويكتب هيرست أنه عندما قتل أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، باستخدام عشر قنابل خارقة للاستحكامات ألقيت على طابق محصن على عمق ستين قدماً تحت الأرض، خرج الناس إلى الشوارع في إسرائيل يحتفلون.
وأنه بعد شهرين، غدا المزاج في إسرائيل مختلفاً جداً. قبل أحد عشر يوماً فحسب، قال وزير الدفاع يسرائيل كاتس إن الهدف كان نزع سلاح حزب الله وإيجاد منطقة عازلة في جنوب لبنان.
لكن الجيش الإسرائيلي لم يتمكن من تحقيق أي من الهدفين، والإسرائيليون يعلمون ذلك، وفق الكاتب.
وذكر أنه لدى سؤالهم في استفتاء أجري بعد أربعة عشر شهراً من القتال “من الذي انتصر”، قال 20 بالمائة من الإسرائيليين المستطلعة آراؤهم إنهم يعتقدون أن إسرائيل هي التي انتصرت، بينما قال 19 بالمائة إن حزب الله هو الذي انتصر. وقال 50 بالمائة من الناس إن القتال سوف ينتهي بدون أن يحقق أي من الفريقين فيه نصراً واضحاً، بينما قال 11 بالمائة إنهم لا يعلمون.
لقد أطلق على العملية التي قتل فيها نصر الله اسم “النظام الجديد”. وتكريساً لسردية النصر، تهيمن اليوم أسطورة إسرائيلية مفادها أن حزب الله تحطم وتضاءل بعد 13 شهراً من الحرب. وخرجت “نيويورك تايمز” بكل ثقة لتعلن أنه بعد أن تم إضعافه وعزله، فقد غدا حزب الله في أمس الحاجة إلى وقف لإطلاق النار.
تسريبات قاتلة
ويؤكد الكاتب على أنه لا ريب أن قيادات الصف الأول والثاني في حزب الله قد هلك جزء كبير منها. وما من شك في أن أجهزة المناداة والاتصال اللاسلكي المزروعة بالمتفجرات كانت مدمرة، ولكن فقط للناس الذين كانت هذه الأجهزة بحوزتهم، وكانوا من الإداريين وأصحاب المهام السياسية. إلا أن هذه الأجهزة لم تكن تستخدم من قبل المقاتلين.
وأضاف أنها كانت أكبر صدمة تقوض الإحساس بالثقة داخل المنظمة هي التسريب الاستخباراتي الذي تسبب في مقتل خليفة نصر الله المفترض هاشم صفي الدين، وذلك في ضربة إسرائيلية قوية لقاعدة سرية تحت الأرض تابعة لحزب الله يوم الثالث من أكتوبر (تشرين الأول).
ويعتقد أن صفي الدين قتل خلال دقائق من وصوله إلى اجتماع لمجلس شورى حزب الله. وكانت الضربة في غاية القوة لدرجة أنها دمرت أربعة مبان سكنية ضخمة.
وما زالت النظريات حول كيفية تمكن الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية من تحقيق هذا الاختراق تتأرجح ذهاباً وعودة بين لبنان وإيران، بين حزب الله والحرس الثوري الإيراني.
هل هناك جاسوس مزروع بمستوى جنرال داخل الحرس الثوري الإيراني؟
وتساءل الكاتب من بالضبط كان يعلم في أي طابق من منزل ضيافة تابع للحرس الثوري الإيراني كان ينام إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وحارسه الشخصي، ومن كان يعلم متى أويا إلى فراشيهما؟ فقد كان لدى هنية ضيوف حتى إنه أوى إلى فراشه في الثالثة فجراً.
ووفقه نعلم أن المخابرات الأمريكية (سي آي إيه) دربت في ألبانيا الآلاف من أعضاء الجماعة الإيرانية المعارضة “مجاهدي خلق”، ولكن حتى مع ذلك فكيف حصلت إسرائيل على هذه المعلومة الدقيقة وشديدة الحساسية؟
وتساءل هل توفرت لدى الولايات المتحدة القدرة التقنية على التجسس عن بعد على ما كان يعتبر ذات مرة نظام اتصال آمن جداً بين بيروت وجنوب لبنان؟ ويجيب أنه لا أحد يعلم بعد.
وبحسبه يتم إجراء تحقيق مشابه في سوريا. ولا شك أن هذا البحث عن الجاني ضمن جهود الاستخبارات المضادة قد أسفر عن إيجاد ثغرة في منظومة السيطرة والتحكم.
ولكن وفقه ثمة حقيقة لا يمكن تفسيرها وتنحيتها بسهولة من قبل أصحاب الإيجاز العسكري الإسرائيليين والأمريكيين على حد سواء. كيف تمكن حزب الله من الاحتفاظ بالسيطرة على ميدان المعركة بدون أن تكون لديه قيادة فعالة تعمل من داخل مقراته الرئيسية في الضاحية الجنوبية ببيروت؟
لا يمكن لأحد أن يجادل في أن حزب الله هذا، الذي يُزعم أنه “أضعف وأنهك”، خاض قتالاً شرساً، أشد وأقوى من ذلك الذي خاضه في حرب 1982 عندما تمكن الجنود الإسرائيليون خلال خمسة أيام من الوصول إلى بيروت، أو في حرب 2006.
السلاح الأقوى على الإطلاق
وبرأي الكاتب فبدلاً من إيجاد منطقة عازلة، أمضت القوات الإسرائيلية الغازية شهرين وهي موحلة على الحدود، غير قادرة على الاختراق أو على احتلال مواقع تزيد على الأربعة كيلومترات داخل لبنان، بل وكانت تضطر مراراً وتكراراً إلى الانسحاب من مواقعها. وهذا، على الرغم من شنها حرباً خاطفة على البلدات والمدن اللبنانية في طول البلاد وعرضها.
وذكر أن وحدات النخبة الإسرائيلية، مثل لواء غولاني، تكبدت ضربات موجعة، فقد خسرت ما لا يقل عن 110 من عناصرها في المعارك منذ السابع من أكتوبر 2023، ومنذ اليوم الذي عبروا فيه الحدود وهم يقعون في شراك نصبت لهم بشكل مسبق.
ووفق الكاتب فقد بلغ الشعور بالكراهية والإحساس بالمهانة الذي ولدته إسرائيل داخل لبنان، بل وداخل كل بلد من بلدان المنطقة، بسبب حملات القصف التي شنتها خلال الشهرين الماضيين وبسبب حملة الإبادة التي لم تزل تشنها على غزة، أن بعض الانقسامات المريرة التي أحدثتها الحرب الأهلية في سوريا قد بدأت تتعافى، وذلك على الرغم من أن هذه الندوب، كما أثبتت أحداث هذا الأسبوع في سوريا، لم تتلاش بعد.
ولكن الشهور الثلاثة عشر الماضية من حرب غزة أثبتت أن حركة مقاومة فلسطينية “سنية” يمكن أن تضم صفوفها إلى حركة لبنانية “شيعية” في القتال ضد عدو مشترك.
وهذا وحده، بحسب الكاتب، فعل الكثير من أجل إعادة تركيز الطاقات السنية والشيعية في كل أرجاء المنطقة. لم تعد تجدي نفعاً بالنسبة لإسرائيل، كما كان عليه الحال مسبقاً، تلك الإجراءات التي تمارس من أجل تهدئة وترويض المنطقة من خلال سياسة “فرق تسد”.
ويرى أن ثمة تغير نفسي كبير يحدث في العالم العربي السني، ما أفضى إلى محو منطق اتفاقيات أبراهام. لم يعد بالإمكان تحقيق السلام من خلال الاعتراف بإسرائيل، ولا من خلال محاولات تكريسها كمهيمن تكنولوجي وعسكري واقتصادي داخل المنطقة.
إلا أن نفوذ إيران في أرجاء العالم العربي قيده على الدوام واقع الانقسامات العقائدية والطائفية في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن، يضيف
وحذر الكاتب من القراءة الخاطئة للشرق الأوسط من إسرائيل وأمريكا واعتبار أن “استسلام” حزب الله، بالقبول بوقف لإطلاق النار، بينما تستمر إسرائيل في قصف غزة وتحويل ما تبقى منها إلى رماد، يُنظر إليه كمرحلة ممهدة لاستسلام مشابه تقبل عليه حماس.
وذكر أن حماس هي الأخرى باتت تُنفض منها الأيدي باعتبارها “جاثمة على ركبها” بعد موت زعيمها يحيى السنوار، على الرغم من أنها مستمرة في العمل حتى في جحر الجحيم في شمال غزة، حيث لم تزل كل إمدادات الطعام مقطوعة منذ خمسين يوماً.
ولكن هذا أيضاً، مجرد أمانٍ تتخفى في زي تحليل سياسي، يؤكد الكاتب.
فحتى بعد الضرب الكثيف الذي تلقته غزة خلال الأشهر الأربعة عشر الماضية، فلا تزال حماس عصية على رفع الراية البيضاء.
في واحدة من عدة تصريحات صدرت منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار، تشجعت حماس باضطرار نتنياهو إلى القبول بصفقة لم تحقق له أهدافه العسكرية من الحرب في لبنان.
وقالت حماس في أحد بياناتها إن “قبول العدو اتفاقاً مع لبنان دون تحقيق شروطه هو محطة مهمة في تبديد أوهام نتنياهو بأنه قادر على تغيير خارطة الشرق الأوسط بالقوة، وأوهامه بأن بإمكانه أن يهزم قوات المقاومة أو ينزع منها سلاحها”.
وعبرت الحركة عن التزامها “بالتعاون مع أي جهود لوقف إطلاق النار في غزة، ضمن محددات وقف العدوان على غزة، التي اتفقنا عليها وطنياً، ألا وهي وقف إطلاق النار، وانسحاب قوات الاحتلال، وعودة النازحين، وإتمام صفقة حقيقية وكاملة لتبادل الأسرى”.
لم يطرأ تغير يذكر على هذا الموقف منذ أن قبلت حماس بمقترح وقت إطلاق النار الذي تراجع عنه نتنياهو في شهر مايو (أيار) قبل غزو رفح واحتلال محور فيلادلفيا.
حرب مباشرة أقرب من أي وقت مضى
وبحسب الكاتب فأما وقد وحّل في غزة وطُرد من لبنان، فقد بدأ نتنياهو بالعمل على تحويل انتباه ترامب نحو الحاجة إلى مهاجمة إيران.
وتارة أخرى، يتم التمهيد للعدوان على إيران من خلال خلق أسطورة غدا المراسلون الغربيون أبواق دعاية لها.
وهي الفكرة الطموحة التي ترى أن إيران باتت مفتوحة على مصراعيها لهجوم إسرائيلي وأمريكي كبير آخر يستهدف هذه المرة مرافقها النووية بعد أن تمكن الهجوم السابق من تدمير دفاعاتها الجوية.
بحسب هيرست ففعلاً، لقد ضربت محطة رادار وقتل في الهجوم أربعة جنود، إلا أن بطارات إيران من طراز إس-300 لم تصب ولم يُشل نظام الدفاعات الجوية الإيراني.
ولأن ما حدث كان شيئاً مختلفاً تماماً، بحسب ما صرحت به مصادر إيرانية مطلعة.
وذكر أن الموجة الثانية من طائرات إف-35 الإسرائيلية، التي كان من المفروض أن تهاجم بعد أن يكون قد تم تدمير منظومة الدفاعات الجوية، أبقيت على مسافة سبعين كيلومتراً خارج الحدود الإيرانية بعد أن “أدركتها” الرادارات الإيرانية، رغم ما لديها من قدرات تسللية.
وذكر أنه بحسب مصادر تعيش بالقرب من بارتشين، وهو موقع يزعم المسؤولون الأمريكيون أنه مقر أبحاث أسلحة نووية سري ونشط، فإنه لم يصب الموقع بالصواريخ الباليستية.
ويؤكد الكاتب أنه على أية حال، كان قد تم إخلاء جميع المعدات التي كانت موجودة في مقر تيليغان 2 في بارتشين ونقلت إلى الجبال قبل وقت طويل. وتعرض موقع آخر للضرب بالمسيرات، ولكنها جاءت من بحر قزوين، وليس من الغرب حيث تتواجد القوة الإسرائيلية الضاربة.
ومع ذلك فإنها تكاد مثل تلك الحكايات عن أن إيران “مفتوحة على مصراعيها” تكون الطعام والشراب الذي يغذي جهود نتنياهو المحمومة للحصول على دعم من الحزبين في واشنطن لتوجيه ضربة حاسمة.
وتساءل الكاتب ما إذا كان ذلك سيحدث أم لا فهو نتاج لعبة معقدة تشارك فيها إدارة بايدن التي توشك ولايتها على الانتهاء مع نتنياهو ومع الدولة العميقة، رغم أن لكل من هذه الأطراف دوافعه المختلفة للرغبة في توريط إدارة ترامب القادمة وتحديد خياراتها قبل أن تستلم مقاليد الأمور.
كما أن بإمكان إيران ـ يضيف هيرست ـ أن تهاجم إسرائيل بشكل أكبر وأشد كثافة مما حصل في أكتوبر (تشرين الأول) عندما أطلقت مائتي صاروخ ومسيرة انتقاماً لاغتيال هنية في طهران واغتيال نصر الله وقائد الحرس الثوري عباس نيلفروشان.
وبرأيه قد تفعل ذلك لأسباب ثلاثة: لأنها قالت إنها سوف تقوم بذلك، ومن أجل استعادة الردع، ورداً على سفك الدماء المستمر في غزة.
وحسبه فلا شك أن الإشارات الصادرة عن الحكومة الإصلاحية والتي تشي بعكس ذلك، وبشكل خاص أن وقف إطلاق النار في لبنان يمكن أن يؤثر على تخطيط إيران للانتقام ضد الضربات الإسرائيلية الأخيرة، ينبغي أن توزن مقابل الطريقة التي يفكر بها الحرس الثوري الإيراني.
ويرى أن لا غزة، ولا لبنان، ولا إيران، تمثل أخباراً سارة بالنسبة لنتنياهو، الذي يواجه عاصفة من المعارضة في بلده. إنها معارضة من جيش منهك، ومن عائلات الرهائن الذين ما زالوا على قيد الحياة، ومن مخاطر جلب تهم الفساد إلى القضاء.
كما أنها العداوة المتنامية من قبل حركة استيطانية مسلحة ترى أن فرصة عمرها في الاستيلاء على جميع “أرض إسرائيل” التوراتية تكاد تفلت من يدها.
وبرأي الكاتب فإن نتنياهو مقامر غارق في الديون، ولا نجاة له إلا بمزيد من المراهنات. ولكن رزمة أوراقه توشك على الانتهاء.
ويخلص هيرست للقول: الحقيقة هي أن إسرائيل، التي أنجزت القليل خلال ثلاثة عشر شهراً من الحرب وخسرت الكثير، لديها عادة عنيدة في النحس عبر طبقات عديدة من الأساطير والأوهام.