صبحي حديدي يرصد علاقة إدوارد سعيد بالفلاسفة اليهود ما بين خلاف وائتلاف!

الثلاثاء 15 أكتوبر 2019 01:50 م / بتوقيت القدس +2GMT
صبحي حديدي يرصد علاقة إدوارد سعيد بالفلاسفة اليهود ما بين خلاف وائتلاف!



وكالات -


كتب يوسف الشايب:

أشار الناقد السوري صبحي حديدي، إلى أن المفكر الفلسطيني الكوني إدوارد سعيد تأثر وطور وتوافق واختلف مع عديد الفلاسفة اليهود، أي الفلاسفة الذين ولدوا يهوداً والذين اشتغلوا على موضوعة اليهودي وشخصيته والصهيونية والمنفى، ما أعطى فلسفاتهم بعداً خاصاً، ولهم سجالاتهم على أكثر من مستوى .. وجاء ذلك خلال ندوة احتضنتها جامعة بيرزيت بعنوان "إدوارد سعيد والفلاسفة اليهود: خلاف وائتلاف!".

وسرد حديدي حكاية الصحافي الإسرائيلي في "هآرتس" آري شافيت حين توجه إلى نيويورك لإجراء حوار مطوّل على مدار ثلاثة أيام مع إدوارد سعيد .. وقال: في هذا الحوار قال إدوارد سعيد إنه "مؤمن بأن غالبية الكوارث السياسية والفكرية تسببت بها حركات اختزالية، حاولت أن تبسّط وتطهّر، وتوجب بذلك أن نقيم الخيمة أو الكيبوتس أو الجيش، ونبدأ من الصفر .. لا أومن بهذا كله، ولا أرغب به لنفسي حتى لو كنت يهودياً، وسأحارب ضده، ولن يستمر، حتى أنها لن تستذكر"، ومن ثم رد سعيد بعبارة صاعقة على سؤال شافيت بأنه "يبدو يهودياً جداً"، فأجاب: بالطبع أنا آخر مفكر يهودي .. أنت لا تعرف أحداً آخر، كل مفكريكم اليهود وجهاء ضواحٍ، من عاموس عوز إلى جميع هؤلاء في أميركا، لهذا أنا الأخير، أنا المتابع الحق الوحيد لأدورنو، ودعني أضع المسألة هكذا: أنا فلسطيني يهودي.

وشدد حديدي: هذه العبارة عندما تخرج من شخص كإدوارد سعيد لابد أنها تحمل الكثير من المعاني، وهي ساقت في الواقع الكثير من التأويلات والتفسيرات، لكن فيما بعد اتضح لكثير من الكتاب والمفكرين اليهود، وليس الإسرائيليين فقط، أن عبارة سعيد هذه تأتي لكسر احتكار يهودي تاريخي كبير وأثير لدى اليهود واستولت عليه لاحقاً الفلسفة الصهيونية، وهو أن اليهود هم أهل المنفى والتشرد، وهم أهل الكتاب، وهو بما قاله صادر هذا الاحتكار الامتياز بالنسبة إليهم.

ولفت حديدي إلى أن سعيد فيما بعد طوّر هذا السجال بطريقة بارعة وذكية وصدامية، حين قال: ليست المسألة أن نرث نحن الفلسطينيين من الإسرائيليين أو من اليهود تحديداً حكاية المنفى والتشرد، لكن المسألة بكل بساطة أننا أيضاً ضحايا ذلك الامتياز، وضحايا ذلك الاحتكار، وبالتالي نحن لا نصادر حقكم في أن تظلوا شعب الكتاب وشعب المنفى، شريطة أن تعترفوا أننا أيضاً الآن أصحاب هذا الحق نتيجة للسياسات الإسرائيلية.

وفيما بعد طوّر سعيد، وفق حديدي، أن الفلسطيني يملك الآن امتيازاً لا يستطيع الإسرائيلي انتزاعه، ولا علاقة له بالمنفى أو التشرد، وهو كون أن الهوية الفلسطينية، سواء قرر الفلسطيني أو تردد في الأمر، باتت هوية متعددة وبنت عصرها وبعيدة تماماً عن الغلو القومي اليهودي الصهيوني، الذي هو بنظر إدوارد سعيد وبنظر فلاسفة يهود أيضاً من الأخطاء الكبرى التي قادت الصهيونية من مفاهيمها الأولى الكونية إلى مفاهيم العنصرية والاستعمار والاستيطان، وبالتالي أن يكون المرء فلسطينياً يهودياً، وفق تعبير إدوارد سعيد، فإنه لا ينتزع حقاً من اليهود بل يسبغ على ذلك الحق صفة فلسطينية متميزة وتاريخية وقابلة للاقتناء، وبالتالي المعركة الحضارية تتجاوز السياسة والوقائع على الأرض.

وكان هناك حساسية وربما تشدداً تجاه إدوارد سعيد من بعض المفكرين اليهود ممن ارتبطوا بالمؤسسة الصهيونية، حتى لو أبدوا ملامح يحاولون من خلالها أن يبدوا وكأنهم مستقلون، خاصة أن إدوارد سعيد بالفعل يعيد لبعض المفكرين اليهود حقهم في أن يكونوا إنسانيين وليسوا يهوداً فقط، كما تفعل الصهيونية، كما أنه انتزع أدورنو من القلعة الحصينة التي يعتبر الفكر الصهيوني أنها ملك لإسرائيل المعاصرة.

ومن أبرز الفلاسفة والمفكرين اليهود، الذين كانت علاقة إدوارد سعيد بهم علاقة ائتلاف وتأثر، تيودور أدورنو المفكر الألماني اليهودي، الذي اضطر إلى مغادرة ألمانيا إلى الولايات المتحدة ثم عاد فيما بعد، وبالتالي عاش تجربة المنفى .. في رأي أدورنو، وهو ما عمد سعيد إلى إحيائه وتطويره، أن المنفى لا يكرّس نفسه هوية يهودية صافية أو امتيازاً، بل على العكس فالمنفى يجب أن يجبر اليهودي على التخلي عن غلوه القومي، وهنا وجد سعيد فيما طرحه أدورنو أفكاراً إيجابية استثمرها لصالح تثبيت الحق الفلسطيني في الانضواء ضمن إطار مفهوم المنفى، بحيث يصبح المنفى سمة للفلسطيني المعاصر.

وكانت لدى أدورنو حالة من القلق الشديد إزاء "السرديات الكبرى"، وفق تعبير حديدي، كتلك التي تقولها التوراة عن الشعب اليهودي والكنعانيين "العدوانيين" مثلاً، وهي مسألة استغلها مفكرون يهود صهاينة للانتقال من مصر الفرعونية إلى إسرائيل بن غوريون، وهو، أي أدورنو يرى أن التشبث بهذه السرديات شكل من أشكال التقوقع والانعزال، ولهذا اعتبر إدوارد سعيد أن واحدة من "السرديات الكبرى" الخاطئة في التفكير الفلسطيني حكاية أننا نملك هوية فلسطينية مستقلة قائمة ولا تهزها العواصف، بل اعتبر الهوية الفلسطينية موضوعاً اجتماعياً إنسانياً قابلاً دائماً للاهتزاز والارتقاء، أو للجمود والتطوير، رافضاً أن يكون لدى الفلسطينيين "سرديات كبرى"، وهو بذلك اقتنص "بضاعة أدورنو وردها إلى المفكرين اليهود لا كما هي، بل بعد أن اكتسبت ذلك المزج الذي أضافه بذكاء كبير".

وتحدث حديدي عن المفكر الألماني اليهودي إريك أورباخ، وهاجر إلى اسطنبول إبان حكم النازي، وهو صاحب كتاب "المحاكاة" شديد الأهمية، وهو سبق أدورنو بالقول إن المنفى يجب ألا يتحول إلى امتياز ثقافي وإنساني يتاجر به من أجل خدمة هذا الشكل أو ذاك من التسلط والهيمنة، واعتبر المنفى الذي اختاره في تركيا لم يكرسه يهودياً صهيونياً، خاصة أنه لم يستطع العثور فيما درسه من أدب غربي على ما يحضه على أن يصبغ صفة امتيازية على شخصية اليهودي المنفي.

وما برع فيه إدوارد سعيد هنا، وأثار غيظ الصهاينة من المفكرين اليهود، هو قدرته على تحليل شخصية أورباخ، والحديث عن أن منفاه لم يكن غربياً بل شرقياً، وتوقف عند هذه النقطة لتعميق مفهوم أورباخ بخصوص تشظي الهوية والمنفى، وكأنه يقول إن أورباخ لم يكن منفياً بسبب الثقافة الغربية التي درسها بأناة وعمق، بل لأنه أقام بين الأتراك واكتشف معهم كم الأبعاد المتعددة داخل الهوية الواحدة، وكم ينبغي لهذه الهوية أن لا تتحجر.

وكشف حديدي أن هذا الشكل من التحليل لدى إدوارد سعيد أغاظ جان بول سارتر، الذي رأى أنه "يسقط عن اليهودي صفة الامتياز"، قبل أن يتطرق للحديث عن الفيلسوفة الألمانية اليهودية حنة آرنت، التي كانت صهيونية المزاج في البداية حين كانت الصهيونية ذات طابع كوني، قبل أن تتغير وجهة نظرها إزاء الصهيونية بمحض الصدفة حين كلفت بتغطية محاكمة آيخمن في إسرائيل، لتكتشف أن هناك صهيونية لا علاقة لها بالأنسنية ولا بالكونية بل هي حركة قومية استيطانية، وأن في إسرائيل ما يمكن تسميته "عادية الشر"، أي الهبوط بالشر إلى مستوى مبتذل، فعادت إلى الولايات المتحدة ونزعت عنها صهيونيتها، فباتت هدفاً للمفكرين اليهود الصهاينة، وهنا ثمن إدوارد سعيد مواقفها من الصهيونية دون أن يغفل أن آيخمن من قادها إلى حالة التطهر هذه، لكنه انتقد محاولاتها استثناء دولة الاحتلال من كونها نظاماً شمولياً، مع أنها كانت الأكثر جرأة في فضح علاقة النازية بالصهيونية، حيث تحدثت عن اتفاق ما بين أركان في النازية والصهيونية ذهب ضحيته يهود في مجازر النازي مقابل السماح ليهود آخرين بالذهاب إلى فلسطين.

وخلص حديدي إلى أن شخصية إدوارد سعيد الفلسطيني، بمعنى انتمائه بعمق أكثر إلى القضية الفلسطينية، تطورت من خلال هذا النقد الذي مارسه تجاه حنة آرنت، ليتجه من الأدب والنقد إلى السياسة.

وتطرق حديدي إلى خلاف إدوارد سعيد وجاك دريدا الذي رغم علمانيته، إلا أنه كان يعتبر التراث اليهودي تصوفياً، منطلقاً من حقيقة أن الفكر اليهودي يتسم ببعد ميتافيزيقي، لافتاً إلى أن سعيد لم يكن لديه موقف خصامي معه بل على العكس كان من أولئك الذين ظهّروا دريدا في الولايات المتحدة، لكن حين امتدح الأخير البعد التصوفي في الديانة اليهودية، وتجاوز هذه الديانة ليصبغ الأمر على إسرائيل ويمنحها بعداً ميتافيزيقياً، تصدى له سعيد، وخاضا سجالات في منتهى العمق، ومنها سجال عنيف من سعيد تجاه دريدا .. وقال حديدي: في النهاية لا يمكن لفيلسوف تفكيكي وفيلسوف "موضة" ولا يزال، أن يغفل هذه الحقائق المرئية البسيطة.

وقبل دريدا، خاض إدوارد سعيد سجالاً وجيزاً مع سارتر، أظهر فيه الأخير حالة من التناقض ما بين كونه فيلسوفا وجوديا كان ماركسياً ذات يوم، بحيث انتصر لتحرر أفريقيا، وانتقد المؤسسات الاستعمارية الغربية، وموقفه من دولة الاحتلال الذي كان عصابياً، فلم يكن منحازاً لها فقط بل كان متشدداً في الدفاع عن إسرائيل، وهنا ناقشه سعيد من زاوية معرفية تتعلق بوجوديّ ينتقد الإمبريالية ينشطر إلى هذه الدرجة من الانحياز لدولة استعمارية ربيبة الإمبريالية، لدرجة أنه انسحب من اجتماع دعي إليه في باريس لاتخاذ موقف من القضية الفلسطينية بحضور كبار فلاسفة ومفكري العالم حين علم أن إدوارد سعيد سيكون بين الحاضرين.

كما تطرق حديدي لسجالات سعيد مع الأميركي اليهودي وولتزر الذي اعتبر أن خروج اليهود من مصر هو إنجيل حركات التحرر والثورات في العالم ودليلها، وأن موسى هو رجل التحرر الأول ويجب أن يكون مقياساً لحركات التحرر بأسرها، وخاصة في العالم الثالث، بل اعتبر إسرائيل هي التجسيد الأبرز للتحرر، وبرع سعيد هنا في تفكيك نص وولتزر السياسي، وهذا يحسب له هو القادم من منطقة النقد والأدب، مشدداً على أن مواقف سعيد ارتكزت على فكرة العداء للسامية مقابل العداء للفلسطيني في نقده للمفكرين اليهود الصهاينة، وهو ما عبّر عنه بوضوح في كتابه "الاستشراق" حين وصف العداء للإسلام بعداء جديد للسامية.