إحدى أهم المشاكل التي يعاني منها قطاع غزة وتسببت في حصاره هي أصرار (حماس) على الحكم والسعي للاعتراف الدولي بها كند ومفاوض دون الاعتراف بإسرائيل وأن تُبقي على صفتها التي انطلقت من أجلها نهاية ثمانينات القرن الماضي كحركة مقاومة فلسطينية إسلامية دون تغيير.
ما نشرته قناة الميادين اللبنانية قبل مدة (من خلال سبق صحفي) قيل أنه وثيقة حركة (حماس) الجديدة ، تلك الوثيقة التي تم الحديث عنها طويلاً قبل نشرها وقيل أنها ستحمل تغييرات جوهرية على برنامج الحركة وميثاقها السياسي، ولكن وبعد نشرها لم يُلمس تغييراً جوهريا في ميثاق الحركة وتوجهاتها المبدئية ، ولم تحمل الوثيقة مفاجئات كبيرة كما كان يُظن، فقد حافظت الوثيقة على كل ما كان في ميثاقها السابق0 الحالي باستثناء ثلاثة أو أربعة قضايا، كانت الحركة قد تبنتها على الصعيد العملي ولكنها بعد أن تنشر الوثيقة رسمياً تصبح جزءاً من المبادئ الرئيسية في الميثاق الجديد، ومع أن تغريدة السيد سامي أبو زهري حول أن قناة الميادين حصلت عليها (أي الوثيقة ) بطريقة غير لائقة ، وأن الحركة ستنشرها بصيغتها الأصلية وبشكل رسمي في وقت لاحق فإن الوثيقة وفق صيغة هذا التصريح هي وثيقة حقيقية لا ملفقة.
وقد أكد على ذلك السيد موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في معرض رده على سؤال لصحيفة الاستقلال الفلسطينية حول ما ورد في وثيقة حماس الجديدة بأنها تقبل بدولة فلسطينية على حدود 67، ومدى صحة ذلك؟
أجاب السيد أبو مرزوق أن ذلك صحيح، وليس بالجديد، فوثيقة الوفاق الوطني التي تم التوافق عليها منذ عشر سنوات تتحدث عن هذا الأمر كنقطة إجماع وطني، وسياسة حماس حول هذه النقطة بالذات واضحة لا لبس فيها، ولكن هذا الأمر لا يعني على الإطلاق التخلي عن أي حق لنا في كل فلسطين، ولا يعني الاعتراف بالكيان الصهيوني.
نعم وكما يقول السيد أبو مرزوق في ضمائر الناس هذا الاعتراف لا يغير شيئاً.
ولكن واقعياً من يتعاطى بالسياسة وخصوصا الدولية منها ، يعلم أن هذا الفهم يتناقض مع الواقع السياسي الذي سينجم عن الاعتراف بحل الدولتين أو القول بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 1967 فمن يوافق على دولة في حدود عام ١٩٦٧ ليس بحاجة لسلاح (مقاومة) بل بحاجة لسلاح لحماية حدود الدولة في حال قطاع غزة انسحبت إسرائيل حتى حدود الرابع من حزيران عام 1967.
على من يوافق على حدود الدولة، أن يُوفق بين موافقته على هذا الحل ومتطلبات هذه الموافقة إقليمياً ودولياً...
من يريد المقاومة عليه ترك السلطة والتفرغ للمقاومة، أما الجمع بين الامرين فهذا امر مستحيل أعتقد أن السنوات الماضية كانت كافية لأخذ العبر ...
وأنا هنا اتحدث بالمنطق المجرد بعيدا عن حماس ومواقفها ومبادرتها ، فأنا لا أحاسبها على ما ورد في الوثيقة بل على المنطق والواقع الذي على الحركة التعاطي معه في ظل هذه الموافقة، أي حل الدولتين، فإذا كانت الحركة توافق على دولة ضمن حدود عام ٦٧ فعليها أن تعرف مسبقا أن موافقتها على هذه الحدود، تعني فيما تعني انها تعترف ضمنا ان في باقي الارض أي اراضي عام ٤٨ هناك دولة اسمها اسرائيل (أو كيان العفاريت ليس مهما التسمية) ولها الحق أي إسرائيل (أو كيان العفاريت) البقاء والاستمرار سواء قالت حماس ذلك بشكل مباشر أو موارب أو تلميح ، او لم تقل على الإطلاق،( الأمر سيان) فهذه الدولة أو الكيان موجودة واقعياً على ما نسبته 78% من فلسطين التاريخية.
وباعتراف حماس بحدود عام ٦٧ فهي أي حماس ستخضع للقانون الدولي وللاتفاقيات الدولية، وهو ما خضعت له منظمة التحرير بعد أوسلو.
وهنا يطرح سؤال وماذا عن التحرير الكامل وماذا عن سلاح المقاومة؟
سلاح المقاومة الذي تريد حماس الذي تريد به أن تكمل التحرير لباقي فلسطين ، وفق تصور السيد ابومرزوق أو شعارات حماس المعلنة، سيُصبح في نظر العالم سلاح ارهاب بعد هذه الموافقة، هذا إذا استمرت حماس في منحه هذه الصفة وفق القانون الدولي، واي عمل من حماس يتجاوز حماية الحدود سيُعتبر اعتداءً على دولة جارة حيث سيفقد السلاح الذي في يد حماس صفة سلاح التحرير كون حماس وافقت على حدود الدولة، أو الدولتين، وعليه لا يمكن للحركة الجمع بين هدفين اقامة دولة على حدود عام ٦٧ وفي نفس الوقت القول بأنها وبسلاح المقاومة ستحرر كل فلسطين وأنها لن تعترف بإسرائيل.
طبعا ما أقوله سيُعتبر ساري المفعول عندما يتم إقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام ١٩٦٧ أما طالما انها لم تقم فمن حق حماس كما كل الفصائل الفلسطينية استخدام كافة اشكال النضال ضد كيان الاحتلال، ولكن عليها ألا تحتفظ في نفس الوقت بالسلطة لأنها ستُعطل اهدافها وتشل حركتها وتصدمها بجماهيرها لأن للسلطة متطلبات وشروط مازالت حماس ترفضها.
وكذلك لا تستطيع الحركة (حماس) فعليا القول أن مبادرتها ليست سوى حل مرحلي تكتيكي لأنه في الحقيقة لا يوجد شيء اسمه حل مرحلي تكتيكي هذا يصلح كأدبيات داخلية لتعبئة العناصر القاعدية، ولكنه لا يصلح أن يُكتب في وثيقة رسمية، الهدف منها تلبية شروط معينة لتكون نداً مفاوضاً.
والتجربة تقول أن منظمة التحرير حاولت فعل ذلك في السبعينات ولكنها كانت كذبة كذبوها على جموع الشعب الفلسطيني (وأعترف بذلك السيد هاني الحسن في ندوة له في لندن عام 1988) ، وعليه فإن هذا الحل هو حل نهائي واكتمال الحلم أي فلسطين الكاملة التي تعشعش في ضمائر كل العرب والفلسطينيين بشكل خاص ، يمكن الرهان عليها ضمن استراتيجية تطبيق حق العودة لللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي طردوا منها ، وعلى التغير الديمغرافي في الداخل وهي عملية بحاجة إلى تراكم عامل الزمن والتكاثر وليس البنادق، وهذا هو برنامج منظمة التحرير الفلسطينية.
ولكن هذا أمر أخر وشكل نضالي لا يتعلق بفلسطيني عام 1967 بل بفلسطيني العام 1948 ومن سيعود إلى تلك المناطق المسماة إسرائيل في أي تسوية لأوضاع اللاجئين فان ذلك سيتم من خلال المفاوضات بين المنظمة وإسرائيل وفق المبادرة العربية الإسلامية للسلام.
وعليه تبقى حدود عام ٦٧ هي حدود الدولة الفلسطينية، من يقبل بها يقبل بوجود اسرائيل ومتطلبات هذا الوجود من اعتراف والتزامات، لكن من يريد المقاومة أو التحرير بالكفاح المسلح من المفروض أن يبتعد عن هذه الحلول.
هذا من ناحية من ناحية أخرى إذا كانت المنظمة بحسب وثيقة حماس الجديدة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، فيعني ذلك القبول بما قبلت به المنظمة والالتزام بالتزاماتها. والتزاماتها وبرنامجها هو برنامج الدولة على حدود عام ٦٧ وبالطبع اعترفت المنظمة بإسرائيل، وعليه فإنها أي حماس حين توافق على أن المنظمة هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني التي هي جزء منه توافق تلقائياً على ما وافقت عليه المنظمة بطريقة مباشرة.
وحماس اليوم لها أعضاء في المجلس التشريعي الذي هو نتاج أوسلو، وشكلت حكومة بناء على اتفاق أوسلو، وحصلت قياداتها وأعضائها على جوازات سفر نتجت عن اتفاقيات أوسلو (بعضها دبلوماسي) واتخذت حكومتها العاشرة صفة حكومة السلطة الوطنية الفلسطينية وهي تعبيرات أوسلوية وكل التسميات الإدارية التي ورثتها حماس عن السلطة أثناء حكمها لغزة بعد تمردها المسلح عام 2007 هو وراثة لمؤسسات أنتجها أتفاق أوسلو.
حماس اليوم تسير باتجاه خيار التسوية الذي هو خيار حكم وسلطة لا خيار تحرير، من يرغب في خيار التحرير ليس بحاجة لاعتراف العالم به شريكا في صنع السلام وقد أراحته المنظمة من كل ذلك في اتفاق أوسلو.
تصريح وزير الخارجية التركي في واشنطن حول موافقة حماس تحت الضغط على الاعتراف بإسرائيل والتفاوض مع إسرائيل ونزع سلاحها يدل أن خيار التسوية والسلطة والحكم هو خيار حماس اليوم.
إلا أن المستمع للتصريحات الحمساوية وعلى كافة المستويات يضيع بين ما تريده حماس فعلا!!
يبقى سؤال وهو هل هذا الموقف الملتبس المزاوج بين المقاومة والسلطة وعدم نشر الوثيقة يدل على أن هناك خلافات كما يروج بين الجناحين السياسي والعسكري؟
أنا لا أرى ذلك، ولا أرى أن هناك انشقاقا متوقعا في حماس، ولا أعتقد أن هناك خلافاً بين القيادتين، بل هناك توزيع ادوار البعض يعتقدها خلافات.
ولكن يُطرح هنا سؤال وهو لماذا لا تلجأ حماس إلى طريقة أسهل أي أن تفعل فعل (الشين فين) في ايرلندا الشمالية اي الفصل بين الحزب السياسي والجناح العسكري، ولكن ليس باسم حماس فالاسم أصبح محروقاً، ومهما حاولت القول إن السياسي لا علاقة له بالعسكري فهو قول لن يقنع أحداً. إذاً الحل هو انشاء حزب سياسي رديف يدخل السلطة ويقبل بكل ما قبلت به منظمة التحرير، كما كانت فكرة حزب الخلاص الوطني الإسلامي سابقا، وبذلك تحافظ على مقاومتها ومعارضتها، فقد نجح الأيرلنديون في ذلك، ولا اعتقد ان الوقت تأخر لتطبيق هذا النموذج.
وكان بإمكان حماس في عام 2006أن تنشأ هذا الحزب السياسي وكانت زجت فيه بعضً من عناصرها ودعمته من الخارج ونزلت انتخابات مع كتل انتخابية اخرى، لو فعلت ذلك ولم تنزل باسمها مباشرة ورفضت تسلم الحكم وبقيت في التشريعي وخاضت التجربة وتعلمت لوفرت على شعبها الاف الويلات والمأسي ووفرت عليه الانقسام، لكن قيادة حماس سلمت أمرها للقدر في ذلك الوقت...
والقدر لا يعني تغييب العقل والعناد بل يعني التخطيط والإدارة السليمة ومن ثم ترك الأمور للخالق ليسيرها بما فيه الخير.
ليس مطلوبا اليوم من حماس الاعتراف بإسرائيل إذا اعترفت بالمنظمة ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، وليس مطلوبا منها أن تفاوض إسرائيل إلا إذا كانت عضوا شريكا في منظمة التحرير، وليس مطلوبا منها نزع السلاح الذي في يدها (في قطاع غزة) فالإسرائيليون انسحبوا دون اتفاق مع أي طرف فلسطيني، وانسحابهم كان خارج أتفاق أوسلو وتحت ضربات المقاومة ولكن أيضا ضمن خطة استراتيجية هدفها فصل الضفة عن قطاع غزة وهو الطعم الذي ابتلعته حماس بكل سهولة.
إذن ووفق الرؤية الجديدة لحماس وإذا ما تحقق حل الدولتين وفق صفقة القرن فيمكن لحماس أن تتوافق مع فصائل منظمة التحرير لجعل سلاح المقاومة وعناصرها جزء من الجيش الوطني الفلسطيني، جيش للدفاع عن الحدود وفق استراتيجية فلسطينية موحدة.
على حماس أن تفرق ما بين الطموح وبين متطلبات الدولة والسلطة والحكم، وألا تذكر في الميثاق الشيء ونقيضه فهكذا صيغة لن تقدم أو تأخر من واقعها الحالي إقليميا ودولياً أو إسرائيلياً.
يكفي فقط أن تعترف حماس بمنظمة التحرير ممثلاً شرعيا وحيدا وتقبل ما قبلت به المنظمة، هذا الاعتراف كافي ويوفر عليها الكثير من الصياغات والاعترافات، فبعد هذه الاعترافات تصبح غير مطالبة بأي شيء إضافي.
إلا إذا كان الهدف هو تجاوز المنظمة وطرح نفسها كبديل فذلك أمراً أخر ...
مفكر وباحث في العلاقات الدولية