خبر : في الاستشراق وشعبوية النقد ..د. خالد الحروب

الإثنين 13 ديسمبر 2010 11:05 ص / بتوقيت القدس +2GMT
في الاستشراق وشعبوية النقد ..د. خالد الحروب



     ثمة استسهال وتسطيح بالغ في أوساط كثير من المثقفين والكتاب العرب وغير العرب إزاء مسألة إعلان العداء المطلق للاستشراق، وخاصة بعد أطروحة إدوارد سعيد الشهيرة عن علاقة بعض مدارس الاستشراق البريطاني والفرنسي بالسيطرة الإمبريالية للدولتين آنذاك.ما من شك في حقيقة وجود استشراق تم توظيفه إمبرياليا واستخباراتيا في مراحل مختلفة، وصولا إلى يومنا هذا، وهو ما يجب أن يُدان ويُكشف. لكن هذا النوع من الاستشراق ليس كل الاستشراق، بل الجزء الأقل والضحل منه.ففي مقابله هناك استشراق مدفوع بالرغبة في البحث والعلم والمعرفة، وهو استشراق درس التاريخ العربي والإسلامي ونقب عن المدونات الكبرى ليس فقط في الأدب والتاريخ بل وفي الأحاديث ومصنفاتها وفي الدراسات القرآنية. بل يمكن القول إن معظم الكتب التراثية التي بين أيدينا الآن هي من نتاج التحقيقات العلمية المضنية التي قامت بها مدارس الاستشراق.ومن الممض ان نرى كل وارد جديد على حقل الثقافة يكرر بتعميمية ساذجة الشتائم ضد الاستشراق والمستشرقين من دون ان يدرك ماهية الموضوع الذي يتحدث عنه، ومن دون أن يكلف نفسه جهد النظر إلى رفوف مكتبته الخاصة ليرى أهمية الدراسات البحثية الاستشراقية. والاستشراق لم يكن يوما محصورا بالبريطانيين والفرنسيين، بل هناك استشراق ألماني وهولندي وروسي وحتى بولندي ولنا أن نسأل أي مؤرخ عربي متخصص في حقب زمنية ماضية إن كان بإمكانه أن يستغني عن ما أنتجه المستشرقون في مختلف الحقب.التعامل المتوتر مع كل ما يأتي من الغرب يحول السجالات والنقاشات إلى معارك لفظية ساذجة. فهنا، وكما الحال مع تعبير "العلمانية"، أصبحت لفظة "الاستشراق" و"المستشرقين" مرذولة ومحملة بمدلولات ابتسارية غير معرفية تحيل المفهوم كله من دون استثناء إلى الاستعمار، وتجعل من كل مستشرق موظف استخبارات. ليس هناك باحث عربي في تاريخ الفكر العربي الحديث إلا واستخدم بإسهاب كتب ألبرت حوراني وأرنولد توينبي وغيرهما كثير. وليس هناك باحث عربي في تاريخ الدولة الإسلامية الأولى إلا واستخدم كتب يوليوس فلهاوزن وآدم ميتز وغيرهما وكل ذلك بسبب قيمتها العلمية العالية، وهو ما أدركه باحثون عرب ومؤرخون كبار مثل محمد أبو ريدة بما دفعهم لترجمة هذه الأعمال.هل نختزل هؤلاء جميعا وغيرهم مئات بالتهمة الصبيانية السريعة التي تسمهم بالعمالة الاستعمارية وما سوى ذلك؟والنقطة الأخرى المهم الالتفات إليها في هذا السياق، ومتعلقة بأبستمولوجيا النظرة لـ "الآخر"، هي أن الحضارة الغالبة تنظر دوما نظرة دونية للحضارة المغلوبة. وفي الأدبيات التي تنشرها الحضارة الغالبة تجد كثيرا من الصور السالبة والاحتقارية لممارسات وثقافة المهزوم.وهذا وجد الكثير منه في جزء من الكتابات الاستشراقية الحديثة والتي فكك مناهجها إدوارد سعيد.وهنا علينا أيضا أن نتذكر أن هذا ليس حصرا على الثقافة الغربية في لحظة ظافريتها ولجهة نظرتها إلى الثقافات الأخرى. فالثقافة الصينية احتقرت دوما الثقافات المحيطة على قاعدة التباهي بعراقتها وإنجازاتها، وفي القرن الثامن والتاسع عشر احتقر اليابانيون كل محيطهم الجغرافي وفي احتلالهم له مارسوا أكثر البشاعات وعبروا عن ذلك في ادبياتهم. في التاريخ العربي والإسلامي نقرأ في كتب مهمة مثل مقدمة ابن خلدون أو ابن الأثير وفي كثير حتى من المصنفات الفقهية أوصافا للشعوب الاخرى غير المسلمة بأنها شعوب "متوحشة" و"بربرية" وسوى ذلك. في العصر الراهن نحن افضل حالا من العصور المنقضية لأن أية أطروحة احتقارية أو عنصرية تصدر حتى من الحضارة الغالبة تتعرض لنقد شديد وتوضع تحت الضوء وتحارب.إدوارد سعيد صُنف على مدار عدة سنوات كواحد من أكثر المثقفين العالميين تأثيرا، وهو من قاد الحملة العالمية والتاريخية، ضد الاستشراق الإمبريالي الغربي، رغم انسياقه لتعميمات وإصداره أحكاما فضفاضة احياناً.وهكذا تتم أسطرة أحد أهم نقاد ممارسات الحضارة الغربية كواحد من أهم أعلام النقد الكونيين في عصر غلبة تلك الحضارة. وما كان بإمكان ذلك ان يحدث في مراحل سابقة من التاريخ الإنساني، أي أن يخترق خطاب مقاوم للحضارة الغالبة الحدود التي تسيطر عليها تلك الحضارة ويصبح أحد عناوين الثقافة الإنسانية.الفهم المركب المطلوب للاستشراق والذي بالكاد نجده وسط النخب المثقفة يختفي بشكل شبه تام عند الانتقال إلى الرأي العام الواسع في العالم العربي والإسلامي، حيث تسيطر الشعبوية على هذا الرأي وتوجهاته. فثقافات الشعوب وممارساتها تفترق من ناحية العمق والدرجة عن ثقافات وممارسات نخبها. الشرائح الواسعة والعظمى من الناس تستحوذ عليها اهتمامات يومية وحياتية هي التي تستنزف تفكيرها ووقتها وجهدها ولهاثها الطبيعي. والنخبوية، وكما يشير اسمها، لها سمات مختلفة ودائما محدودة الدوائر. لكن الشيء المهم هنا والذي يشكل فارقا مهما بين المجتمعات هو اتساع القنوات بين النخب وما تنتجه من ناحية ومجتمعاتها من ناحية ثانية. فعبر هذه القنوات يتم تسويق وترويج الأفكار التنويرية لقواعد عريضة. وتوفير هذه القنوات مُناط بالشكل الاجتماعي والثقافي والسياسي في تكوين ما. فإن كان هذا الشكل يقفل هذه القنوات ويحشر النخبة في زوايا بعيدة وضعيفة التأثير في الرأي العام فإن كل الأفكار المنتجة لا تلقى صدى وتطبيقا، وتظل على الأرفف. احد الفروقات بين المجتمع المتقدم والمجتمع المتأخر في الزمن الحاضر يكمن هنا بالضبط: أي في رحابة قنوات الاتصال بين الأفكار الجديدة والثورية التي لا تني عن الظهور، والرأي العام على أوسع نطاق ممكن. عندما تعاني تلك القنوات من انسدادات محبطة فإن تلك الأفكار تتجمد في الكتب والأدبيات. نحن نعيش هذا الانسداد من عهد جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده وإلى الآن.كل ما يتصل بالفكر التنويري يتم إغلاق قنوات اتصاله مع الجمهور. وفي المقابل يتم تسهيل وفتح قنوات كل ما له علاقة بالفكر الانغلاقي والشعبوي الذي يثير العواطف على حساب العقول.الإعلام العربي في الوقت الحالي وخاصة الفضائي يقوم بدور الريادة في الترويج للفكر الانغلاقي والشعبوي على حساب العقلانية والاستنارة. وهنا يتم دوس النقاش المعمق حول الاستشراق، وتحويل المسألة كلها إلى تآمر استخباراتي وسوى ذلك.ويتم هذا في سياق عام سمته ان المساحة الممنوحة للفكر النقدي، وللعقل، وللنقاش العميق، وللثقافة والفن عموما، لا تُقارن مع المساحة الممنوحة للبرامج الدينية، والفتاوى، والحواريات السياسية الشتائمية والشعبوية.الخطاب الشعبوي يجلب تصفيقا واسعا ويوسع دوائر التأييد (الجاهل)، أما الخطاب النخبوي فيحتاج إلى تضحية وجهد كبير لأنه خارج عن السائد، ولهذا لا يستسيغه مالكو قوى الإعلام الكبرى والمؤثرة.فضلا عن ذلك هناك قوى السوق التي تناصر النزعات الشعبوية. فتوسيع سوق الإعلام يستلزم تبني رسالة إعلامية غرائزية شعبوية ترفع من حجم الجمهور، وبالتالي تزداد الأرباح والعوائد، وبذلك تسقط العقلانية والاستنارة تحت الأرجل. Email: khaled.hroub@yahoo.com