خبر : موقف الأديان السماوية من ممارسة التعذيب.بهجت الحلو

الأحد 31 أكتوبر 2010 11:54 ص / بتوقيت القدس +2GMT
موقف الأديان السماوية من ممارسة التعذيب.بهجت الحلو



استدعى الخليفة عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه) واليه على مصر عمر بن العاص وابنه، بعد ان تقدم إليه مواطن مصري  قبطي بشكوى تعرضه للتعذيب بالضرب  على يد ابن الوالي الذي سبقه المواطن القبطي في سباق للخيل،  حيث  ضرب ابن العاص المواطن القبطي وقال له: أتسبق ابن الأكرمين...؟ وبعد أن وصلا، صرخ الخليفة في وجه والى مصر وابنه قائلا: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، ثم التفت إلى القبطي طالباً منه أن يقتص لنفسه من هذا الولد المغرور.   إن المتتبع للحركة الإنسانية وما دانت له من شرائع حملت معاني أخلاقية سماوية  سامية  يجد أن موضوع مناهضة التعذيب برز كمحدد مشترك ما بين الأديان السماوية وغيرها من الأعراف والقيم الإنسانية.  وبالرجوع إلى  قيم وتعاليم الأديان السماوية نجد أنها تشددت  وقبحت ممارسة التعذيب باعتباره عملاً يمس جوهر الإنسان: يمس كرامته وسلامته  البدنية والنفسية والروحية وهذا ما أكدت علية الشرائع السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام.   الديانة اليهودية  لم تذكر التعذيب صراحةً فيها، ألا ان أسفارها نعت ممارسة التعذيب الذي تعرض له أتباعها عبر التاريخ. ويؤكد الربانيون من  أتباع هذا الدين بان التعذيب يتنافى مع كرامة الإنسان.   واستمدت الديانة المسيحية معاني الرأفة والرحمة تجاه الإنسان، من نبع الرأفة والرحمة وروح الخلاص التي حملها السيد المسيح (علية السلام)  الذي واجه صنوف العذاب النفسي والجسدي من طغاة عصره. وتمثل ذلك في قصة تبوأت مكانة في قلب التاريخ، وذلك عندما استشاط المسيح غضباً من أولئك الناس الذين هموا (بتعذيب) امرأة رموها بالخطيئة  واستعدوا لرجمها بالحجارة، فقال كلمته الشهيرة: " من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر" !!     ولعل الرحمة والمودة الإنسانية  في قلوب القساوسة والرهبان  التي عبر عنها القران في قوله تعالى  " ولتجدن أقربهم مودةً للذين امنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبنا " هي التي  دفعت قساوسة الكنيسة إلى رفض ممارسة الحكام للتعذيب ضد خصومهم، واعتبارها أعمالاً مهينة، وطالبوا بإلغائها،  بل كان يصلون من اجل الضحايا وجلاديهم.   ولقد بينت الديانة الإسلامية حرصاً على كرامة الإنسان، التي يمس بها ممارسة التعذيب في قوله تعالى" ولقد كرمنا بني ادم"  وقول الرسول محمد (ص) بعد أن بلغه أن أناساً كانوا يتعرضون للتعذيب من خلال دهنهم بالزيت وتعريضهم لشمس الصحراء الحارقة فقال " إن الله يعذب يوم القيامة أولئك الذين كانوا يعذبون الناس في الدنيا"   وخطب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في إحدى خطبه فقال" : إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم وليأخذوا أموالكم، من فعل به ذلك فليرفعه إلي أقصه منه، فقال عمرو بن العاص:  لو أن رجلاً أدب بعض رعيته أتقص منه؟ قال: إي والذي نفسي بيده"   وفي سياق آخر يكشف جرأة المواطنين الذين يتعرضون لمعاملة مهينة وحاطه بكرامتهم  فليجأون إلى الحاكم العادل ليقتص لهم من معذبيهم، جاء رجل من الكوفة  إلى الخليفة بن الخطاب، وقد وضع شعره المحلوق في قطعة قماش مربوطة، ثم ألقاها في صدر الخليفة وقال له: انظر ماذا يفعل بنا ولاتك؟ في إشارة إلى عامل الكوفة الذي قام بحلق شعر هذا المواطن تعسفاً ، فقام الخليفة بالإرسال في طلب هذا العامل- وكان يدعى أبو موسى الأشعري- وقام بالتحقيق معه  ثم أمر للمواطن بتعويض، وقام بعزل أبو موسى الأشعري ونصب عاملا آخر مكانه على الكوفة.   وفي إشارة إلى تشنيع الإسلام  لممارسة  التعذيب، فقد  بعث عامل  البصرة برسالة إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز يستأذنه  بتعذيب أشخاص من رجالات سلطة سابقة،  قبض عليهم  هذا الوالي بتهمة ممارسة الفساد بمصالح الرعية في مرحلة سبقت تولي عمر بن عبد العزيز للسلطة، فاستشاط الخليفة غضباً ورد علية برسالة تتضمن تساؤلات كأنها طلقات رصاص: أتستأذنني في تعذيب القوم؟ وهل أنا لك شفيع أمام ربك؟..وهل انك لك جنة ( أي وقاية) يوم القيامة... ويحك... إياك ان تمسهم بسوء، بل خذهم بأمرين بالإقرار أو البينة، إن الله أرسل محمداً هادياً ولم يرسله معذباً أو جابياً..   ان ممارسة التعذيب والتي عانى منها البشر منذ بدأ الخليقة لاقت تصدياً لها في الشرائع السماوية، وكذلك في شرعة حقوق الإنسان التي أولت مساحة واسعة في صكوكها واتفاقياتها وأدبياتها لمناهضة التعذيب، وتحريمه وتجريم مرتكبيه وحماية ضحاياه. بيد ان هنالك فجوة عميقة، وانفصام نكد بين تعاليم الأديان ونصوصها المقدسة وبين ممارسة أولئك الذين حكموا باسمها، إلا أن ذلك لا يمس بهيبة وقداسة النصوص، تماماً كما أن هذا الانفصام بين النظرية والتطبيق نراه في ممارسات الدول التي تنادي باحترام حقوق الإنسان وهي قد تمارس انتهاكات فجة لحقوق الإنسان وعلى رأسها ممارسة التعذيب التي أصبح ظاهرة مستوطنة في  عديد من دول العالم إلى الحد الذي دفع  "المجلس العالمي لرد اعتبار وحقوق ضحايا التعذيب" إلى توثيق قيام أكثر من مائة دولة بممارسة التعذيب وبانتظام، ومن بين هذه  الدول أغلبها  دول صادقت على اتفاقية مناهضة التعذيب!!  لكن هل  جعلت الممارسات المتناقضة المدافعين عن حقوق الإنسان يفقدون الإيمان بالقيمة الحقوقية والقانونية  لاتفاقية مناهضة التعذيب التي حرمت وجرمت التعذيب؟  وهل اضعف ثقتهم  ومثابرتهم  للعمل من اجل قيام الدول والحكومات والأجهزة الرسمية لإعمال هذه الاتفاقية  واحترام حقوق الإنسان ؟ الجواب حتما.. كلا ! بل ان المدافعين عن حقوق الإنسان يسعون إلى أكثر من مناهضة التعذيب، أنهم يسعون إلى تجسيد واقع وممارسة إنصاف الضحايا وتعويضهم ومسائلة ومحاسبة مقترفي هذه الجريمة عبرالاجراءات القانونية.    وبالتالي فان المتتبع لخط حركة الأديان والشرائع السماوية في مناهضة التعذيب يجد أنها حركة عميقة في التاريخ، وقوية في التأصيل، ومبالغة في تشنيع هذه الجريمة بوصفها مس فادح بالإنسان وبكرامته، وبالتالي  فإن الاستئناس بالموروث الديني للتصدي لظاهرة التعذيب، أداةٌ  ذكية يجب ان يستعين بها المدافعون عن حقوق الإنسان. إن الشرائع السماوية وشرعة حقوق الإنسان بإمكانهما ان يعملا معا من اجل حقوق الإنسان والتصدي لظاهرة التعذيب.