خبر : البابا والعلمانية .. د. خالد الحروب

الإثنين 18 أكتوبر 2010 02:30 م / بتوقيت القدس +2GMT
البابا والعلمانية .. د. خالد الحروب



انتقد بابا الفاتيكان بنديكتس السادس عشر العلمانية المتغولة في بريطانيا وشقيقتها التعددية الثقافية خلال كلماته التي ألقاها في زيارته الحالية إلى البلد ذي تاريخ التمرد البروتستنتي الأهم في القارة الأوروبية. الزيارة الفريدة والتاريخية التي قام بها القائد الروحي للكنيسة الكاثوليكية التي خاضت صراعا امتد قرونا مع "الهراطقة البروتستانت" شكلت معلما تاريخيا ... ومقلقا. فالزيارة المثقلة بالحمولات الرمزية تشي بالانزياحات التدريجية التي يشهدها المزاج العام الأوروبي إزاء مسألة الدين والعلمانية. فهذه الأخيرة تتلقى ضربات متتالية من موجات الأصولية الدينية المتصاعدة سواء داخل أوروبا أو القادمة إليها من الخارج، وهذا كله يرجح مآلات متشائمة في المستقبل. وعلى رغم عدائهم العميق وتوعدهم لبعضهم البعض يتفق أصوليو الخطابات الدينية أيا كانت مشاربهم العقدية على شن حرب على العلمانية وتنظيمها الاجتماعي في أوروبا أو غيرها. وما يرشح من خطابهم المتوحد من دون اتفاق هو التوق لرؤية مجتمع تسيطر عليه الرؤية الدينية، ويخضع بطبيعة الحال للمؤسسة الدينية، ويسير وفق توجيهاتها في تخليق أفراد متشابهين تسيرهم حمية الدين ويرفضون من هو خارج صفهم. وهكذا تنتهي المجتمعات والدول إلى كتل دينية متجانسة قسريا في داخلها، ومختلفة كليا مع خارجها، وآيلة إلى حروب حتمية مع غيرها.من هنا يأتي نقد ومماحكة البابا للتعددية الثقافية سواء في بريطانيا أو الغرب بشكل عام. فهذه التعددية تعترف بـ "الآخر" المختلف دينيا، أو إثنيا، وتعتبره مواطنا له من الحقوق وعليه من الواجبات ما على "الذات"، بفرض أن هناك ذاتا معروفة الحدود وتنطبق عليها التعريفات والتحديدات المميزة لها عن ذلك "الآخر". ولا تستقيم التعددية المُستندة إلى المساواة القانونية التامة إلا مع وجود دستور علماني يشدد على المساواة، لا يسمح للدين بفرض تقسيماته على الأفراد، وحشرهم في تراتبيته بحسب مدى اعتقادهم فيه. فليس ثمة مكان في تلك التراتبية لأجيال من غير المؤمنين والملحدين سواء في بريطانيا أو اوروبا، وجلهم رواد في الفكر والعلوم والسياسة، وأنتجوا الصيغ القانونية والاجتماعية التي ضمنت حقوق الجميع. وهكذا فإن ما يريده البابا من بريطانيا في نقده المذكور هو العودة إلى إرثها المسيحي، وعدم تفريطها بما تمليه الأعراف المسيحية، وأن تتخلى عن المبدأ العلماني الذي يقصر الدين على الممارسة الفردية ولا يسمح له بلعب دور كبير وحاسم في ادارة الدولة والمجتمع.هناك تناقض مدهش ومثير في خطاب البابا وحملته على العلمانية، وهو نفس التناقض الذي يحمله أي خطاب ديني اصولي آخر يعادي العلمانية ويطالب بإزاحتها وإحلال الدين محلها. فلولا هذه العلمانية التي وفرت فضاءً للحرية والتعددية والاعتراف بالآخر لم تشهده القارة الأوروبية التي طحنتها الحروب الدينية لقرون طويلة لما تسنى للبابا الكاثوليكي نفسه أن يضع قدمه في بريطانيا البروتستانتية ويتمتع بإلقاء خطاباته الدينية فيها وفق ما يريد. ونفس الأمر يجب أن يُقال لمهاجمي العلمانية من الأصوليين الإسلاميين الذي يعيشون في أوروبا، إذ لولا هذه العلمانية ولو كانت المجتمعات الأوروبية دينية صرفة كما يريدون للمجتمعات الإسلامية أن تكون، لما انتصب في هذه القارة مسجد، ولما تواجدت جاليات مسلمة بالملايين.وقف البابا في قلب قاعة وستمنستر يؤنب النخبة البريطانية على توجهاتها الفكرية، في حضور أربعة رؤساء وزراء سابقين إضافة الى الحالي، ومعهم أسقف كنيسة كانتربري، وقبلهم خطب في الملكة وزوجها، إضافة إلى مئات اللوردات وأعضاء مجلس العموم. ولو عدنا قرنا واحدا فقط إلى الوراء وتخيلنا القساوسة الأنجليكانيين والبروتستانت الذي حملوا راية الثورة والتمرد على الفاتيكان من سابقيهم يراقبون ما يحدث في تلك القاعة لربما رأيناهم يسقطون جميعا بالصدمة القلبية. لكن لأن بريطانيا العلمانية والمتعددة ثقافيا أزاحت أولئك القساوسة على الهامش ولم تعد تسمح لهم بتقرير وجهة الدولة والمجتمع فإن الرمز الأكبر للكاثوليكية في العالم (أو العدو الأكبر في الماضي) يزورها الآن معززا مكرما. ولإدراك الرمزية والمعنى الكبيرين لهذه الزيارة ولخطاب البابا في ويستمنستر، لنتخيل نحن في الفضاء العربي والإسلامي إمام الحرم المكي يخطب في النجف، أو آية الله السيستاني يخطب في مكة. أيضا يريد البابا المشهور عنه ولعه بالتنظير والتفلسف في شأن علاقة الدين بالعقل وبالعلمانية أن لا تقتصر آلية صنع القانون والتشريعات على وجود توافق اجتماعي حتى لو كان ذلك التوافق صلبا. ويشير إلى أن تلك التوافقات تخلو من البعد الأخلاقي المتجاوز لقدرة البشر على صوغ مناهج تسير حياتهم. ولهذا فلا بد لهم من مصدر خارجي للقوننة والتشريع المتمثل في الدين، والذي يقولب التشريعات جميعها في إطار أخلاقي وليس فقط مصلحي. وبسبب غياب الدين عن التشريعات الغربية والأوروبية، بحسب نظرة البابا، فإن كوارث كبرى وقعت وحروبا طاحنة قامت، وسلسلة من الإخفاقات لازمت المشروع الأوروبي كان آخرها الأزمة المالية العالمية. وما من شك هنا في أن التاريخ السياسي لأوروبا والعالم في حقبتهما العلمانية لا يقل دموية عن حقبهما الدينية السابقة، غير أن الإشارة إلى ذلك على سبيل المقارنة مع تاريخ متخيل اخلاقي وغير دموي للكنيسة هو تجاهل لا يليق بالبابا.فمن هو في مقامه يجب أن لا يتغافل عن حقيقة كبرى هي أن أكثر جرائم أوروبا وحشية، المحرقة النازية ضد اليهود، تترسخ جذورها في اللاسامية الأوروبية المسيحية التي لم تكن ترى أن اليهود يستحقون الحياة أصلا. هذا فضلا عن ان اعتى عتاة المدافعين عن العلمانية لا ينكر جرائم كثيرة ارتكبت باسمها، ولا يزعم بأنها نظام مكتمل وخال من العيوب، بل بكونها آلية ناقصة لكنها دائمة التغيير والاستيعاب. وهنا بالضبط يكمن الفرق الكبير بينها وبين أية رؤية دينية حيث إنها تقر بنواقصها وتظل تعمل عبر النقد الذاتي والشرس على تحسين شروطها ومآلاتها. هذا بعكس أية رؤية دينية ترى في نفسها اكتمالا لا يقبل النقد أو التطوير أو الإضافة. والحديث عن ضرورة تضمين أبعاد أخلاقية في الاجتماع السياسي الراهن الذي تصوغه العلمانية حديث في مكانه، لكنه يأتي من المصدر الخطأ. فالكنيسة الكاثوليكية متمثلة في البابا والفاتيكان رفضت وترفض التوقيع على كثير من المعاهدات والمواثيق العالمية لحقوق الإنسان، وهي المواثيق التي تعتبر أهم نقلة حقيقية في عالم ما بعد الإقطاع والإمبرطوريات الدينية. فبسببها ولأول مرة في تاريخ البشرية يتساوى الأفراد ولا يُنظر لخلفياتهم الإثنية والدينية والجنسية. صحيح أن هناك اختلالات هائلة في التطبيق، لكن ليس هناك أي نظام أخلاقي وقيمي آخر يساوي الأفراد في الحقوق والواجبات ولو على مستوى نظري. والنظام الأخلاقي المساواتي في الأنظمة الأوروبية صاغته العلمانية ولم تصغه الكنيسة. والبابا المثقلة كنيسته باتهامات مثبتة على قساوسة كثيرين بالاعتداءات الجنسية على الاطفال لا يملك الحق في التنظير الأخلاقي على آلية القضاء العلماني. ففيما هذه الآلية والمحاكم العلمانية تعمل على الوصول إلى أولئك القساوسة لمحاكمتهم على جرائمهم، فإن الفاتيكان، وحتى البابا نفسه، هو من حاول التستر عليهم وحمايتهم بالحصانة الدينية من وصول القانون (العلماني) إليهم. Email: khaled.hroub@yahoo.com