خبر : مسيرة التقهقر العربي...د.خالد الحروب

الإثنين 26 أكتوبر 2009 05:47 م / بتوقيت القدس +2GMT
مسيرة التقهقر العربي...د.خالد الحروب



يحتاج المرء إلى قدرة خارقة من ضبط الأعصاب والتروي عند الكتابة عن شؤوننا العامة. فتردينا السياسي والاجتماعي والثقافي يتفاقم فضائحية عندما نراه في مرآة العالم الحديث. والعالم بمجمله يسير في اتجاه، ونحن نسير في اتجاه معاكس. والدمقرطة والانفتاح السياسي تنتشر في كل رقاع الأرض، أو على الأقل تصبح هي أداة قياس جودة وجدية الحكم، إلا في بلادنا العتيدة حيث يتكرس الاستبداد وتنتشر الأتوقراطيات بأنواعها. وفي العالم تترسخ دعوات التسامح والاعتراف بالتعدديات، فيما نحن نرتكس إلى كل أنواع الطائفيات وأيديولوجيات الإقصاء، ونوظف كل ما وصلت إليه تكنولوجيا الاتصال الحديث للتشبث بكل ما هو قديم. وتضيق خياراتنا السياسية والثقافية وتنحصر اليوم بين تأييد ديكتاتوريات، أو تأييد أصوليات متعصبة -وكأنه لا خيارات ولا حتى منزلة أخرى بين هاتين المنزلتين!وكارثة الكوارث أن وضعنا المُتردي، الذي لا يحتاج إلى شواهد إضافية لإثباته، تم تشخيصه وتفكيكه إلى كل عناصره الأولية، لكن من دون فائدة. وتقارير التنمية الإنسانية العربية، ثم التقارير المختلفة التي تبعتها وفككت جوانب التردي الثقافية والمعرفية والعلمية، كلها وضعت الكف، وليس فقط الأصبع، على الجرح المُتسع. ومع ذلك بالكاد يتم الانتباه لما تقدمه هذه التقارير من توصيات وخلاصات لباحثين وخبراء أضاعوا شهوراً، وبعضهم سنوات، من أوقاتهم كي يقدموا لصانع السياسة ما ينبغي أن يسترشد به في اتخاذ القرارات عوض الخبط العشوائي الذي نراه يمينا ويساراً. والسؤال: لماذا لا نتقدم ولو على أي صعيد من الصُّعد؟ أو بالأحرى لماذا لا نحافظ على درجة تردينا ثابتة عوض أن نتقهقر في التردي أكثر فأكثر؟ لقد تواضعت طموحاتنا إلى درجة بات معها بقاء التخلف على مستواه هو الأمنية الأثيرة في ظل الانحطاطات المتوالية.ولعل أحد مظاهر تخلفنا العام هو أن بعض وسائل إعلامنا غير شجاعة في مناقشة القضايا الحساسة، وعوض أن نفتح كل الملفات بوضوح، نظل ندور في نقاش العموميات ولا نقترب من جوهر أي قضية. ولا نناقش ما يحيط بنا ونغرق فيه كل يوم إلا بـ "الريموت كنترول"! إنها حالة مذهلة من السريالية: كيف يمكن أن تناقش ما تتنفسه ويخنقك لكن عن بعد فقط، ومن دون تسميته، أو حتى الاقتراب منه إلى درجة كافية من التشخيص والتحليل. ولذلك نجد بعض الكتاب ممن يحاولون البقاء في دوائر التأثير في وسائل الإعلام الرئيسية يدورون حول الفكرة، ويناورون لإيصالها، ويغلفون رأيهم بطبقات متعددة من الاستدراكات والاستثناءات والتحفظات حتى يمر ما يكتبون من تحت قلم الرقيب. والمُراقِبُ اليقظ، والمُراقَبُ المحتار، يعرفان ما يتم الحديث عنه، وينخرطان في تواطؤ ساذج أساسه استغباء عقل القارئ واستسخافه. وتفاصيل القضايا "الحساسة" وجوانبها كلها مكشوفة وتُناقش في وسائل الإعلام العالمية: التوريث السياسي، الديكتاتوريات، الطائفيات، الدين، المرأة واضطهادها، الجنس، الصراعات العشائرية والحدودية، التخلف العلمي، الأمية الفاضحة، وكل ما لا يخطر على البال. وكل من يهتم بمنطقة الشرق الأوسط يعرف في هذه القضايا أكثر مما يعرف أبناؤها المحرومون من مناقشتها والاطلاع عليها. لنصبح بذلك وكأننا قطيع من النعام رؤوسه مدفونة في الرمال.وإعلامنا تزداد أسقفه انخفاضاً، وتسيطر على موضوعاته ثقافة التحريم. والأمل الذي ساقته الفضائيات والإعلام المعولم منذ سنوات بأن ترتفع أسقف الحريات الإعلامية، ويزداد الجدل الحر بما يؤدي إلى تعميق الفكر وتعددية الأفكار، ذلك الأمل تم دفنه الآن. و"البديل" الذي قدمته هذه الفضائيات لم يتجاوز إعادة إنتاج تخلفنا من جديد، وتكرار الانحياز لكل ما هو بدائي وغريزي فينا، مُسلمة القيادة للطوائف والعواطف عوض الفكر والعقل. والمشهد الإعلامي الفضائي العربي هو مشهد عشائر داحس والغبراء وحروب البسوس وصراعات ملوك الطوائف. وكل من يستطيع الوصول إلى ممول مهووس بفكرة تزايد على بقية الأفكار تعصباً وطائفية، يفتتح فضائية تعلن أنها "ينبوع الحقيقة"، والآخرون، كل الآخرين هراطقة يتشوق حد السيف لحز رقابهم!ووسط هذا المشهد الكابي يتسع التوريث السياسي في العالم العربي. والعبقرية الوحيدة المشهود لها بوفرة تتمثل في كيفية تحويل وتحوير أي منتج علمي أو حداثي أو معرفي أو تكنولوجي حديث ليخدم آليات التخلف ويعيد إنتاجها ويكرسها ويضمن مستقبلها. ولنأخذ أية فكرة، أو وسيلة علمية: فكرة "الدولة الأمة" أو "السيادة"؟ أو فكرة "الثورة"! أو فكرة "الخصخصة" وتحرير القطاع العام: وعلى سبيل المثال فهذه الفكرة الأخيرة وآلياتها قفزت باقتصادات بلدان أكثر فقراً من البلدان العربية إلى مستويات عالية، لكنها تحولت عندنا إلى آلية لتوسيع دوائر النهب، ومنح المحظيين والأقرباء فرصاً إضافية للغنى غير المشروع. وفكرة تكنولوجيا الإعلام أو الاتصال أو علوم الجينات، كله يدخل إلى معمل "التحويل والتحوير" ويتم تفريغه من أي جانب إيجابي يخدم البشر العاديين، ويُعاد إنتاجه ليكون في خدمة النخبة الحاكمة، وفقط. وفكرة "حقوق الإنسان" والمنظمات غير الحكومية: لننظر كيف تم احتواء هذه الأفكار والمنظمات وأصبحت بعض حكوماتنا العربية المُستبدة وأنظمتها هي حاملة لواء الدفاع عن حقوق الإنسان بقدرة قادر.كيف يمكن أن نفسر شيوع فكرة "التوريث السياسي" في الأنظمة الجمهورية، في المنطقة العربية، وفي أي إطار تحليل منطقي أو فلسفي أو علمي بارد أو سياسي براغماتي يمكن استيعابها؟ كيف يمكن أصلا أن يُطرح هذا الموضوع من أساسه؟ يتناسل سيل الأسئلة، ولا جواب على أي منها سوى أن هذه هي معالم مسيرة التقهقر، وسنظل نرى منها الكثير طالما بقينا نسير فيها بثبات ورسوخ.