خبر : المثقف و السياسي ..المعضلة و الحل ..بقلم : إيناس الطويل

السبت 24 أكتوبر 2009 02:45 ص / بتوقيت القدس +2GMT
المثقف و السياسي ..المعضلة و الحل ..بقلم : إيناس الطويل



إن حال اقتتالنا الداخلي وانقسامنا الأليم و تعثر جهود المصالحة بين الحركتين الأكبر على الساحة الفلسطينية هو ما يدفع الإنسان إلى المزيد من التفكر لإيجاد مخرج لأزمتنا الداخلية انطلاقا من أن قضية انقسامنا الداخلي هي المشكلة الأهم مرحليا ،ويقع على عاتق الجميع مسئولية إيجاد حل جذري لها لمواجهة الأخطار المحدقة بالكل الفلسطيني على اختلاف الانتماءات الحركية والحزبية في ظل الواقع المأساوي في فلسطين وما تعرض له الإنسان والأرض من عدوان صهيوني همجي على أهلنا في قطاع غزة واستشهاد أكثر من ألف وأربعمائة فلسطيني نسبة كبيرة منهم من الأطفال و النساء  في ظل الحصار الخانق و المطبق و المستمر على القطاع ، وما تتعرض له أراضينا من استيلاء و تهويد و تقطيع لأوصال مدننا و قرانا  في الضفة الغربية وهجمات شرسة على مقدساتنا من قِبَل قُطعان المستوطنين، فبالرغم من كل هذه المعاناة إلا أن التناقض في الأفكار و المواقف و الرؤى بين الحركتين الأكبر على الساحة الفلسطينية  ما زال هو سيد الموقف حتى اللحظة، وهذا ما يدفعنا للاستنجاد بمنحى آخر من الفكر البعيد عن الفكر الحركي كان أو الحزبي والذي يستطيع أن يحمل على عاتقه صرخة الشعب ويتحدث علنا عما في ضمير الأمة من دون الخوف أو التملق لأي جهة كانت، وبعد دراسة مستفيضة  تبين أنه لتصويب وضعنا الداخلي فنحن بحاجة إلى المثقف الحقيقي ليكون رجل و عنوان مرحلة تصحيح المسار الفلسطيني التي نهدف جميعا إلى الوصول إليها شكلا و موضوعا وهذا المنحى من التفكير يدفعنا لطرح العديد من التساؤلات المنطقية والتي ربما قد تتوفر لها إجابات منقوصة فهل المثقف هو فقط الإنسان الواسع الاطلاع والمُلم بموضوعات شتى وإذا كان كذلك فهل كل هذا الاحترام الذي نحمله لأي شخص عند توصيفه بأنه مثقف يأتي لمجرد أنه عفوا: "حاوية معلومات" فبالأحرى إذن أن نُبَجلَ القرص الصلب لجهاز الحاسوب الذي يمكن أن يحفظ آلاف المعلومات! ولأن السبب الحقيقي الذي يدفعنا لاحترام المثقف و الثقافة بشكل عام ليس انطلاقا من الكم العددي للمعلومات التي بحوزته فعلينا بداية أن نتوقف عند المعنى المحدد و المفهوم العام للمصطلح الثقافي الذي نسعى جميعا للوصول إليه فكرا و ممارسة، إن المعنى اللغوي الصرف لكلمة ثقافة في المعجم الوسيط أنها مجموعة العلوم والمعارف والفنون التي يُطلَبُ فيها الحذق ،أما مفهوم الثقافة فهو يعني البحث و التنقيب و الظفر بمعاني الحق و الخير و العدل و كل القيم التي تُصلِحُ الوجودَ الإنساني ومن الحكمة هنا أن نستنير برأي كبار رجال الفكر الذين أثروا في الإنسانية جمعاء ورسَّخوا نقلة تنويرية في حضارات البشر لنحدد المعنى الدقيق لمفهوم الثقافة والتعريف الأمثل للمثقف الحقيقي. إن رائد علم الاجتماع ذي المواقف الإصلاحية ابن خلدون الحضرمي يعرف المثقف أنه الشخص الذي  يملك الدراية الجيدة بكل ما يتعلق من المجالات فكر و ممارسة وإذا تعمقنا في التعريف المختصر لابن خلدون عن ماهية المثقف لاستطعنا أن نشكل رأيا مبدئيا مفاده أن الإنسان ليطلق عليه كلمة مثقف يجب عليه أولا أن يدرك وثانيا أن يطبق مداركه هذه ممارسة على أرض الواقع أي أن يوصِلَ رسالة لأبناء جنسه محتواها ما اكتسب من مفاهيم ومعارف وكذلك لن يكون المثقف مثقفا لمجرد اكتساب المعرفة دون إفادة العامة، فإن هدف المثقف الحقيقي الذي سعى من أجله إلى اكتساب معارفه هو إصلاح المحيط الإنساني المتواجد فيه على الأقل من خلال مجموع مكتسباته المعرفية والإدراكية عاملاً على ترسيخ مفاهيم الحق و العدل والخير فتنتصر الثقافة عندئذ في تحقيق أهدافها التي وُجِدت أصلا من أجلها، أما حديثا فمن فلاسفة القرن العشرين الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر والذي من وجهة نظري أختلف معه تمام الاختلاف في تعريفه للمثقف فقد رأى سارتر أن المثقف هو الإنسان الذي يتدخل و يدس أنفه فيما لا يعنيه !وإنما يأتي اختلافي معه انطلاقا من أن الإنسان من حقه إبداء الرأي و التفاعل مع كل ما يدور في محيطه ، وبالمقابل أتفق  تماما مع رؤية  المفكر الفلسطيني الفذ و المحامي العالمي بالغ المهارة في الدفاع عن قضية فلسطين العادلة إدوارد سعيد، فالمثقف في نظر إدوارد سعيد هو الإنسان الطليعي الذي يمتلك الشجاعة ليعارض، أي هو الإنسان الديناميكي الذي يعمل على تغيير واقع يرفضه ليحقق الهدف الأصلي للثقافة، وللإنصاف فإن التعريف الأمثل من وجهة نظري للمثقف الحقيقي هو كما رآه االمفكر الأمريكي التقدمي نعوم تشومسكي حينما وصَّف المثقف أنه ذلك الإنسان الذي يحمل الحقيقة في وجه القوة ويأتي توصيف تعريفه بأنه التعريف الأمثل للمثقف الحقيقي إذا ما طبقناه تحديدا على واقعنا المأساوي الحالي الداخلي أو الخارجي فإننا أحوج ما نكون إلى سطوع شمس مجموعة ضاغطة من المثقفين الشجعان الذين يحملون على عاتقهم دق ناقوس الخطر في وجه الجميع وأن يُفَصِّلو وبكل صدق و أمانة  كل سلبيات المرحلة ويصرحون بما لا يستطيع أن يصرح به المواطن البسيط عن معاناته اليومية من التداعيات السلبية الواقعة عليه جراء الانقسام الضار المتزامن مع العدوان المستمر للاحتلال،  فهذا المواطن فقد عزيزا وتشرد و طرد من بيته إثر الاقتتال وذلك المواطن حُرم من ممارسة حقه في العمل ومن تحقيق طموحه فتحول لمجرد منتظر لموعد الراتب كل شهر وتلك الفتاة عادت إلى بيتها بعد انتهاء العدوان الصهيوني الهمجي فما وجدت بيتا ولا أبا ولا أما فأصبحت بين ليلة و ضحاها تعيش مع ذكريات أليمة و ما بقى لها غير قطتها الحزينة وهذه العائلة أُبيدت عن بكرة أبيها و قتل العشرات منها و تلك عائلة أخرى قُصف بيتها فوجدت نفسها فجأة في العراء تلتحف الأرض و تفترش السماء،  فنحن إذن في أمس الحاجة إلى مجموعة صارخة من المثقفين الحقيقيين الذين ينطقون بمعاناة هؤلاء ويوظفون هذه المعاناة لتكون الدافع الأكبر و نقطة الالتقاء  لهذه الأحزاب كي تتحد لتلملم جراح هذا الوطن ، فإن ما نحتاجه لتصحيح واقعنا الداخلي هو تنامي دور المثقف العضوي حسب تصنيف أنطونيو غرامشي صاحب الفكر المبدع في الحركة الماركسية ، حيث يرى أن المثقف الحقيقي هو المثقف العضوي الثوري المرتبط بالطبقات الاجتماعية الفقيرة والمعبر عن آمالها و آلامها وهذا ما أراه حقا توصيفا في غاية الدقة لنوع المثقف الذي يستطيع أن يصحح الواقع فالوضع الفلسطيني لن يعالجه إلا ذلك المثقف الوطني الثوري الذي يُنَصِبُ نفسَه من تِلقاء نفسِه كسلطة مستقلة لها مساحة قول وفعل ليمسحَ غُبنا وبرفع ظُلما ويقوِّم مسيرة وإن لم يمتلك أداة تنفيذية لتطبيق أهدافه السامية وهذا لن يتحقق إلا من خلال جهود جماعية صريحة ومتراكمة وشجاعة متعطشة لتغيير واقع انقسام مرفوض من قبل جموع الشعب الفلسطيني، ولتحديد الهوية الحقيقية للمثقف الوطني الشجاع الذي نحن أحوج ما نكون إليه لإصلاح ما آلت إليه أوضاعنا الداخلية يجب أن نشير أيضا لشبه المثقف وسلبيات تنامي دوره في هذا الوقت العصيب من الشرخ الفلسطيني والذي يضر أشد الضرر بقضيتنا الوطنية و بعدها الاستراتيجي، إن شبه المثقف الذي أقصده هنا هو ذلك الشخص الذي يصح أن نطلق عليه مرتزق ثقافة فهو لا يعبر عن آرائه إلا بالحضور مع سلطة ما للانتفاع من ما اكتسب من معارف و مدارك ليستغلها لتحقيق منافع ذاتية بحتة عنوانها الشهرة و المادية فيصبح مجرد بوق ملَمع لسلطة ما سواء اختلف في أعماق نفسه أو اتفق مع سلوكياتها فيعمل على تسخير أدواته المعرفية لتضليل الرأي العام و يقلب الحقائق في إطار قد يبدو موضوعيا أو منطقيا للعيان و قد لا يكتشف حقيقة فحواه الإنسان البسيط،     وهنا لابد الإشارة إلى أنه ليس كل مثقف ينتسب لمنظومة سلطة ما أنه تلقائيا أصبح من أشباه المثقفين وإلا نكون قد خرجنا عن منهجنا التحليلي الموضوعي و ذهبنا إلى منهج تجريم الآخر من دون وجه حق فللذكر لا الحصر فإن عميد الأدب العربي الأديب و الناقد و الروائي المصري طه حسين عندما أصبح وزيرا للمعارف في وزارة الوفد الأخيرة عام 1950  قرر أن يكون التعليم كالماء و الهواء و عمَّمَ التعليم الابتدائى وذهب بالمدارس إلى كثير من قرى مصر، وقرر مجانية التعليم الثانوى أي أن طه حسين حينما اندرج في منظومة السلطة آنذاك لم يتخلَّ عن المبادئ الأساسية لثقافته من عدل و خير وحق فحول مشروعه التنويري لتعم فائدته على عامة الشعب المصري، فمبادرته هذه كانت مصدر إلهام لثورة يوليو وللزعيم الراحل جمال عبد الناصر" تحديداً" في أن تمتد مجانية التعليم إلى الجامعة، وبالتالي فإن رسالة طه حسين الثقافية الحقيقية التنويرية خلقت أجيالا متعلمة و حققت أهدافها السامية برغم انتمائها للسلطة في ذلك الوقت، وإذا عُدنا بالحديث عن أشباه المثقفين المتواجدين فلسطينيا  لنحدد ماهيتهم ولنستطيع أن نميزهم عن غيرهم  كمدعين للثقافة نجد أن أشباه المثقفين لدينا قد تناموا وطفوا إلى السطح أكثر بالتزامن مع الانقسام الداخلي فتتجلى بهم وبكل وضوح صفة رفض الآخر إلى حد تجريمه و تلتصق بهم سمة التحريض أشد الالتصاق وأقصد هنا بالتأكيد التحريض السلبي  بغرض تأجيج الفتن الداخلية خدمة لأهداف تصب مباشرة في بوتقة مصالحهم الشخصية والفئوية وتؤدي الى تكريس الانقسام الذي يمثل مصلحة خالصة للاحتلال والاستعمار، و من هنا يتضح جليا أنه للخروج من أزمتنا الفلسطينية الداخلية نحن في أشد الحاجة إلى إعلاء صوت مثقفينا الحقيقيين أصحاب الأهداف السامية المجردة من أي مصالح نفعية  والهادفين لإصلاح و توحيد وضعنا الداخلي من خلال التحامهم الفكري والمعنوي بهموم الوطن وتعبيرهم بصدق وحق عن معاناة عموم أبناء شعبنا الفلسطيني بكل حيادية و موضوعية، وبالمقابل فإننا أحوج ما نكون في هذه اللحظة الأصعب من عمر قضيتنا الوطنية إلى تعرية أصوات أشباه المثقفين الذين لا يحملون هموم الوطن وإنما ينتفعون ماديا و ذاتيا من التسلق على أكتاف هذه السلطة أو تلك من خلال توتير النفوس والأجواء ما يضر أشد الضرر بالنسيج الوطني الفلسطيني،   ومن هنا فإنني أوجه نداءا صارخا  لكل القوى على الساحة الفلسطينية على اختلاف مشاربهم و انتماءاتهم ومناصبهم السياسية و الحزبية أن يتركوا المساحة الكافية لحرية التعبير لجموع مثقفينا الوطنيين الحقيقيين المؤمنين بمبدأ الديمقراطية و التعددية الحزبية والرافعين شعار الوحدة و التسامح والشراكة في الكل الوطني الفلسطيني وهو ايضا نداءً عاجلاً لهذه الجموع المثقفة الشريفة أن تنتزع هذا الدور لتكثف الجهود والأفكار والرؤى وتعيد المحاولة مرة تلو الأخرى وتنصب نفسها من تلقاء نفسها كسلطة معنوية مبادرة تقارب بين الفرقاء وتضغط باسم جراح الشعب وآلامه على المنقسمين  لتقويم هذا الوضع الغريب عن مجتمعنا الفلسطيني،  ولترتفع هذه الأصوات لإيصال صرخة كل من يتجرع حسرة البعد والانقسام، ولتستثمر هذه الجموع كل ما في عقولها من طرق إبداعية لترسيخ مفاهيم وحدة الدم و القضية و المصير في قلب جماهير القاعدة الفلسطينية العريضة و التي أصابها الشرخ الأكبر جراء هذا الانقسام لأبناء الوطن الواحد لنصل إلى لحظة تصالح فلسطيني حقيقي مع الذات فنمحو آثار حقد قد نما في النفوس و آثار ثأر وانتقام وضغينة ترعرع في القلوب فإن مصلحتنا في تعددنا السياسي وتقبل الشريك لتحجيم أي فساد قد يظهر انطلاقا من أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة،  كما أن المصالحة الداخلية يجب أن تصعد من داخل أزقة مخيماتنا و قرانا و مدننا لأن المصالحة و الوحدة الفلسطينية الحقيقية التي نحتاجها لتعديل مسيرة النضال الوطني يجب أن تأتي من العمق لا ان تفرض فقط على السطح تاركين العُمق فريسة ينهشها وحش الانقسام فحينما تتصالح و تتحد الجماهير الفلسطينية المختلفة الانتماءات الحركية و الحزبية سيؤثر هذا إيجابيا على أي جهود مصالحة رسمية متعثرة حتى اللحظة بل و سيفرض على القيادات أن تتحد و تتصالح .إن هذه المهمات الصعبة  تقع على عاتق جموع مثقفينا الوطنيين فإن الثقافة الحقيقية المنتفضة على انهيارات سابقة هي العنوان الأمثل لمرحلة التصالح الوطني الفلسطيني. كاتبة فلسطينية