ســلــوكـيـــــات..عبد الغني سلامة

الأربعاء 17 يوليو 2019 10:51 ص / بتوقيت القدس +2GMT
ســلــوكـيـــــات..عبد الغني سلامة



أُتيحت لي ذات مرة فرصة زيارة السويد، هناك تعلمتُ الكثير فيما يخص سلوكيات البشر؛ في إحدى المرات، دخلتُ محلا تجاريا، وكان هناك زبون يقف أمامي، وبتلقائية، سألتُ البائعَ عن غرضٍ معين، فتجاهل سؤالي، بل تجاهل وجودي كلياً، ظننتُ في بادئ الأمر أن السبب عنصري، ثم تبين لي أن السبب مختلف تماما، فقد جرت العادة هناك أن يولي البائع (أو الموظف) كل اهتمامه فقط للشخص الأول الذي يقف أمامه، يعطيه كل وقته، حتى لو وقف خلفه طابور من الزبائن، لن يلتفت إليهم، وهم بدورهم لن يزاحموا ذلك الشخص.. في بلادنا مثلا، تدخل محلا لشراء قميص، ما أن تدلف من الباب حتى يتلقفك البائع مرحّباً مؤهّلاً، سيتجاهل الزبون الذي كان يحدثه قبل لحظات، فقد ضمنه، وعرف ما يريد، وبعد أن يبدأ الاهتمام بك، يدخل زبون ثالث، فيتصرف معك كما فعل مع من كان قبلك، سينسى أنك موجود، وسيضعك على قائمة الانتظار.. وهكذا.
في مجالسنا مثلا، تبدأ الحديث عن قصة ما، مثلا تقول، إنك اشتريت البارحة بطيخة، وكانت حمراء فاقعة، حلوة مثل القطر.. وكنتَ على وشك الاسترسال بقصتك، ربما كنت ترغب بِذكر اسم المحل، وسعر الكيلو.. وأشياء أخرى في ذهنك.. مباشرة، سيتدخل شخص آخر، سيتحدث عن بطيخة اشتراها قبل 23 سنة، لم ينسَ طعمها حتى الآن، ثم يعرج بالحديث عن فوائد البطيخ في الصيف، ومزاياه إذا ما اقترن بالجبن الأبيض، وعن البطيخ المبكّر، ومنزوع النوى.. ويستمر بالحديث إلى أن تنسى أنت قصتك.. وهكذا.
وفي مجالسنا أيضا، حتى لو كانت تضم شخصين فقط، من النادر أن تتمكن من شرح فكرة، أو حتى إكمال جملة، لا بد أن يقاطعك أحد ما؛ تبدأ الحديث عن ارتفاع أسعار الخيار، وفي ذهنك ربط ذلك بموجة الحر التي ضربت الأغوار، فيقاطعك أحدهم، بل السبب بروتوكول باريس واتفاقية أوسلو، وركض القيادة وراء أوهام السلام.. ثم حديث يجر حديثا، ولا بد لكل شخص أن يتدخل، وأن يستعرض معلوماته وثقافته الواسعة، وهنا لا متسع إلا لذوي الأصوات العالية، ومن يحترفون الخطابة والصراخ.. وقد تبدأ الحديث عن مزايا المرسيدس، فجأة تجد الموضوع تحول إلى انحراف الثورة البلشفية عن مسارها الجماهيري، ثم ينتقل دون سابق إنذار إلى رفض أميركا التوقيع على معاهدة كيوتو للتغير المناخي، وينتهي النقاش في "طوشة" عن أسباب الفتنة في زمن عثمان بن عفان.. وهكذا.
وقد تكون مستلقيا على كنبة، مستمتعا برواية لماركيز، فيدخل أحدهم ليقول، أصلا الأدب الروسي هو الأجمل والأعرق، ولو أنك قرأتَ روايات تولستوي لكان أفضل، وهذا المترجم غبي، ولا يفقه روح الرواية.. وقد تكون خلف حاسوبك، تتصفح رسائلك، أو منهمكا بالرد على تقرير مستعجل، فيدخل زميلك، ويبدأ سرد قصته مع جاره الذي يتأخر في دفع حصته الشهرية عن صيانة المصعد، فتومئ رأسك موافقا على كل ما يقول، على أمل أن ينهي قصته بسرعة، فينتقل بالحديث إلى مثالب النفس البشرية، وأمراض العصر، فتوافقه أيضا، وأنت تلمح إلى انشغالك بما بين يديك، لكنه يسترسل بالحديث عن تملق المدير العام للوزير، وعن أزمة نصف الراتب.. وهكذا.
وقد يأتيك إلى مكان عملك ضيف لم تره منذ أسبوعين، أو قريب من الدرجة الرابعة، وهذا الشخص ينتظر سيارته في التصليح، وقد أخبره الميكانيكي أنها ستكون جاهزة بعد ثلاث ساعات.. وتلك الساعات الثلاث ستكون من نصيبك، وعلى حساب أعصابك.. وليست المشكلة في طول الزيارة، فإذا كان سعيدا، عليك أن تقهقه على جميع نكاته، وإذا كان مكتئبا متذمراً، سيغرقك في طاقته السلبية، لدرجة أنك قد تبدأ التخطيط للهجرة، أو للانتحار.. وهكذا.
وهناك ظاهرة الإفتاء الجاهز، أي الخبير الذي يعرف كل شيء، ولديه إجابة عن كل سؤال، ومن المستحيل أن يسمع حديثا عن أي موضوع دون أن يتدخل بحكمه القاطع المانع.. فإذا مرَّ من إسطنبول "بالترانزيت" صار خبيرا بشؤون الأتراك وعاداتهم وأكلاتهم، وإذا قرأ معلومة "من الفيسبوك" عن الاحتباس الحراري، صار خبيرا في البيئة، ولديه حكم جاهز لكل شخصية مشهورة، سواء كان لاعب كرة قدم، أو ممثلا هنديا، أو قائد حزب لبناني، أو رئيس دولة إفريقية.. وإذا تحدث مع طبيب أطفال، سيخبره عن مضار الكورتيزون، وفوائد الرضاعة الطبيعية، وإذا ما اختلف معه في مسألة ما، فيقول عنه (في غيابه) هذا الطبيب خريج تشيكوسلوفاكيا، ولا يفهم شيئا بالطب.. وهكذا.
ومن سلوكياتنا "الرائعة" أيضاً: حُسـن الضيافة، والكرم الحاتمي.. فإذا زرتَ قريبا أو صديقا مثلا، سيولم لك مما لذ وطاب، وإذا أخبرته أنك تتبع حمية معينة، أو أنك نباتي، ستقوم قيامتك، وسيجبرك على تغيير هذه الثقافة "الغبية"، وحتى لو كنتَ حيوانيا (عكس نباتي) سيملأ لك صحنك ثلاث مرات على الأقل، ولن يقبل أن تشبع بسرعة، وبعد أن يمتلئ بطنك، سيجبرك على تناول الحلوى (هذه الكنافة شغل البيت، عملتها إم عصام، ولازم تجربها)، فتجربها، ثم يأتيك بالأعناب والخوخ والمشمش، والشمام، وسيجبرك على تناولها.. وهكذا.
ومن سلوكياتنا أيضا، إذا أتاك الأقارب في سهرة عائلية (لحسن الحظ صار الناس يتصلون ببعضهم قبل موعد الزيارة)، سيرغب البعض بتفقد أركان بيتك، ثم يسألك عن مساحته، وسعره، وعن نوع خشب المطبخ، وقد يفتح الثلاجة، وإذا رأى سلوكا لم يعجبه من أطفالك، سيعطيك محاضرة في أصول تربية الأطفال، وأخرى عن التغذية الصحية، وقد تمتد السهرة بالرغم من تلميحاتك بأنك نعسان، وعليك أن تستيقظ مبكرا.. وعندما تحين ساعة الفراق، تبدأ سهرة جديدة عند الباب، ربما تتواصل في بيت الدرج.. وهكذا.
ومن عاداتنا العجيبة أيضا، أنك قد تكون جالسا في الباص، أو في صالة الانتظار في البنك، فيرن هاتف أحدهم، حينها ستكون مجبرا على الاستماع لقصص وأخبار وقهقهات وصراخ المتحدث، ستعرف أن زوجته تأخرت عند أمها، وأن ابنه رسب في "التوجيهي"، وأن زوج خالته سيسافر إلى الرياض، وأنه لا يحب الشاي بالنعنع.. وهكذا.
ومع ذلك، لدينا الكثير من العادات الحسنة، والسلوكيات الحميدة.. ولكن، علينا أن ننتبه لتصرفاتنا، وأن نرى أخطاءنا.. ربما نصير مجتمعا أفضل ذات يوم.