الصراع على إدلب.. عبير بشير

السبت 15 يونيو 2019 01:20 م / بتوقيت القدس +2GMT



عكست التطورات الدموية الأخيرة في إدلب، ديناميكية الصراع السوري الأوسع. بعدما تحولت المنطقة الشمالية الغربية لمحافظة إدلب، وأرياف حماة وحلب إلى ما يشبه ساحة أشباح، على وقع إسقاط الجيش السوري للبراميل المتفجرة، وعلى دوي قصف مدفعي عنيف، لتودي بحياة أكثر من 250 مدنياً وتدمر 24 منشأة صحية و29 مدرسة وتشرد مئات آلاف السوريين حتى الآن، بعد أن أُجبروا على العيش في الحقول المفتوحة تحت أشجار الزيتون. وذلك رغم اتفاقي آستانة وسوتشي، القاضيين بخفض التصعيد في إدلب. وتوقف الحروب عملياً عند حدود شمال سورية، شرقاً دير الزور والرقة وغرباً، إدلب وريف حماة الشمالي.
لقد تدهورت الأوضاع الأمنية في إدلب منذ شهرين، جراء إتباع الجيش السوري استراتيجيته المألوفة وهي القضم، حيث يحاصر الجيش السوري مقاتلي المعارضة في منطقة واحدة، فيما يتولى سلاح الجو الروسي، شن غارات مكثفة على هذه المنطقة، إلى أن يسترد الجيش تدريجياً الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة. وقد لجأ نظام الأسد إلى هذه الاستراتيجية لاستعادة حمص، وحلب، والغوطة الشرقية، ودرعا.
وبموازاة هذه الصدامات العسكرية الدامية، عاشت إدلب وأريافها، واقعا سياسيا ملتبسا في ظل سيطرة هيئة تحرير الشام، ومنتجها حكومة الإنقاذ، التي تشكلت في أواخر العام 2017 لتكون الواجهة العلنية للهيئة، وساعدتها في إحكام سيطرتها الإدارية والوظيفية على المنطقة. وقلمت حكومة الإنقاذ، نفوذ الحكومة السورية المؤقتة التابعة لائتلاف الثورة السورية، وأجبرتها على الاستقالة، وسيطرت على المجالس المحلية، وأحلت علمها الخاص، مكان علم الثورة السورية. وشكلت حكومة الإنقاذ، أداة تطبيق لسياسات وتوجهات هيئة تحرير الشام المتطرفة في التعامل مع المجتمع السوري في إدلب.
ومكن الخلاف بين اللاعبين الإقليميين حول مستقبل سورية، على فرض النظام السوري سيطرته على جزء واسع من الأراضي السورية، بينما لجأت المعارضة المفككة وبشكل متزايد إلى التكتيكات المتطرفة. لكن الصراع في إدلب مختلف.
وتشغل منطقة إدلب وجوارها في الشمال السوري، الحيز الأوسع في اهتمامات النظام السوري واللاعبين الكبار - روسيا وتركيا – حاليا، وهو انشغال طبيعي، باعتبار أن ما سيؤول إليه الحال في إدلب، سيرسم خطوات أساسية في مسار الحل السوري، لأن إدلب تمثل حاليا نقطة احتدام الصراع في سورية وحولها. ومنذ لحظة توقيع اتفاق بوتين - أردوغان في شأن إدلب حدّد الخبراء العسكريون سببين لعدم تطبيقه: ضغوط النظام والإيرانيين لإفشاله، واستحالة نجاح الأتراك في إقناع فصائل "القاعدة" بتسليم أسلحتهم الثقيلة والمتوسطة.
وفي إدلب ومحيطها، تتمركز اليوم القوة الرئيسية لـهيئة تحرير الشام، النصرة سابقا، وأخواتها الداعشيات، وأبناء عمومتها من سائر نازحي التنظيمات المسلحة، وحواضنها، من مدن وأرياف دمشق وحمص وحلب، والذين لجؤوا إليها، بما يشبه التهجير القسري، بفعل الحصار واستعصاء المعارك واشتراطات التسويات والمصالحات.
وتحتشد في محيط إدلب قوى صراع متباينة منها في الجنوب والشرق قوات نظام الأسد وحلفائه الإيرانيين وميليشياتهم، وقوات روسية، فيما يوجد شمالاً قوات سورية الديمقراطية، أما القوات التركية فتحيط بغالبية إدلب من الشمال والغرب مدعومة بقوتين:  نقاط المراقبة التركية الـ14 المشكلة استناداً إلى مقررات آستانا، والثانية مجموعة من تشكيلات مسلحة للمعارضة السورية، أثبتت ولاءها لأنقرة، وشاركت في عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون.
وعكفت تلك القوى الموجودة في إدلب منذ فترة، على رسم أدوار لما يمكن أن تقوم به عند ساعة الصفر. ففي حين كان الشغل الشاغل للنظام وحلفائه السيطرة على إدلب، فإن هم الأتراك الأول الحصول على نصيب من المنطقة، يزيد من عناصر قوتهم في القضية السورية، فيما سعت قوات سورية الديمقراطية، للوقوف في وجه أي ارتدادات لانفجار الوضع في إدلب، خصوصاً مع احتمال تحرش تركي، يكون بوابة لتوجه القوات التركية نحو شرق الفرات.
ويرى الأسد في معركة إدلب فرصة للسيطرة على ممر سورية الشمالي بأكمله والتمتع بالمزايا التجارية التي ستحدث مع حدود مفتوحة على تركيا. 
أما تركيا الدولة الرئيسية المتضررة من استعادة النظام السوري لإدلب، وهي مناطق تحاذي مباشرة حدودها، فتخشى من أن يؤدي سقوط إدلب إلى نهاية النفوذ التركي في شمال غربي سورية، وفي الملف السوري برمته.
وأدى الهجوم على إدلب، إلى تدهور العلاقات التركية - الروسية، والذي لا يهدد فقط بتصعيد أكثر دموية وفوضوية في إدلب وتشريد مئات الآلاف من النازحين فحسب، بل إنه أيضا يعرض للخطر أي احتمالات لتحقيق الاستقرار السوري على المدى البعيد.
وتدرك أنقرة، توجهات الكرملين في تجميد فعالية وجودهم العسكري في الشمال السوري، لتحجيم دورهم السياسي وحصتهم في المستقبل السوري، وتأخذ أنقرة بالحسبان، بأن محيط إدلب هو محط اهتمام حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي لتوسيع الكانتون القومي الذي يتطلع إليه وإدارته.
وتبدو خيارات أنقرة، لتغيير مسار معركة إدلب ضيقة، على الرغم من محاولتها وقف تقدم قوات النظام بزيادة دعمها العسكري للمقاتلين المتحالفين معها، منها صواريخ تاو، والعربات المدرعة، وأسلحة نوعية. كما أعادت تركيا نشر المئات من مقاتلي الجيش الوطني السوري من عفرين إلى الخطوط الأمامية في شمال حماة، والتي أثبت الكثير منها أهميته الحاسمة في تعزيز الخطوط الدفاعية وشن هجمات برية مضادة.
غير أن حكام تركيا يعرفون، أن كل هذه الخطوات قد تعرقل من تقدم قوات النظام في إدلب، ولكنها لن تمنع في النهاية من سيطرة النظام على المحافظة، بعد جولة عنف طويلة، وخسائر فادحة في أرواح وممتلكات المدنيين.
وربما تسعى أنقرة على طريقة "أهون الشرين"، إلى المراهنة على الحل السلمي بالتوافق مع موسكو، بدلا من الحل العسكري. وإعادة التفاوض على اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في 2018، في ظل حاجة الطرفين الروسي والتركي إلى بعضهما البعض. فروسيا، بحاجة إلى أنقرة، لمواصلة مشاركتها في محادثات آستانا التي تقودها موسكو حول مستقبل سورية، وإعطاء الشرعية للمبادرة الروسية، ودعم رواية موسكو بأن روسيا، على عكس الغرب، قادرة على تحقيق الاستقرار هناك.
وتحتاج روسيا إلى تركيا لمواصلة استيراد الغاز الطبيعي، وأن تصبح قريباً مركزاً للغاز الروسي المتجه إلى أوروبا.
وهي تريدها أيضا، في مشروع إعادة الإعمار خصوصا في الشمال السوري. وفي عملية شراء نظام الدفاع الصاروخي الروسي "إس – 400"، الذي ترى فيه روسيا تحقيقاً لهدف استراتيجي في خرق العلاقة الأميركية – التركية.

 

كما يمكن أن يشمل وقف إطلاق نار جديد، تعهدات من أنقرة بتعزيز آلية مراقبة الانتهاكات في كل أنحاء إدلب، وزيادة التعاون الاستخباراتي لتحديد عناصر هيئة تحرير الشام، التي تستهدف قاعدة حميميم بالطائرات المسيرة، وتوسيع المنطقة المنزوعة السلاح لتشمل أجزاء من الطرق السريعة الرئيسية لإدلب.