أسامة الباز و أنا .. محمد يوسف الوحيدي

الخميس 06 يونيو 2019 07:10 م / بتوقيت القدس +2GMT
أسامة الباز و أنا ..   محمد يوسف الوحيدي




كنت في فندق شيراتون المطار بالقاهرة ، إللي تغير إسمه و بقى هيلتون الآن ، بعد ماكان السنة اللي فاتت فيرمونت ( مصالح تجارية تغير الأسماء و الممتلكات و الإدارات و العبرة لمن يعتبر ) المهم ، كنت رايح بدري شوية عن ميعادي ، أعتقد كان مفروض أقابل شريف أبو رمضان ، و بالصدفة وجدت المرحوم الدكتور أسامة الباز هناك ، كان بيتمشى بالقرب من مكان في الفندق إسمه ( الساقية ) واضعاً يداه خلف ظهره ، و لم ألحظ أي حراسات أو بودي جاردات معاه ، و لا أمامه ولا خلفه .. المهم ، كما هي عادتي في مثل هذه المواقف ، أفقد السيطرة على الأدرينالين الذي يضخ بشكل غزير في جسمي ، و يغلبني الشغف ، رغم أنني حينها لم أكن أمتهن الصحافة و لا العمل الديبلوماسي ، كنت قد إنضممت إلى حركة فتح  قبلها بحوالي سبعة أو ثمانية أعوام من خلال الساحة المصرية ، بعد مشوار طويل مع الإخوان المسلمين ، إنتهى بطلاق بين لا رجعة فيه بيني و بينهم ، وكانت بدايات قبول منظمة التحرير للطرح الأمريكي ، و للقرارات الأممية 242 ، و 338 .. و بداية الطرح المعنون بخيمة في الوطن خير من قصر في المهجر بعد شعار الزمن العربي الردئ و ما إلى ذلك من شعارات ( عقلانية ) .. تقدمت نحو الرجل ، قصير القامة ، مبتسم الوجه ، شديد اللمعان و الشهره و النجومية  و معروف بعبقريته السياسية ، و هو ينتمي لأسرة من الأفذاذ ، فأخوه العالم الطفرة فاروق الباز ، و أسامة الباز ، أضافة إلى كونه المستشار السياسي للرئيس في حينه ، فقد كان معروفاً لدى الفلسطينيين ، و خاصة أبناء فتح ، بأنه من " المقربين " !! و بعد أن قدمت له نفسي ، سألني بإبتسامة لا تخلو من الدهاء ، و عيناه تلمعان بشده  : و ليه بتتكى ( تشدد ) على أنك فلستيني ( فلسطيني ) و إنت بتقدم نفسك ؟  الحقيقة إنني فوجئت بملاحظته ، و قلت له ، ربما لتهيأة الجو سيادتك و التمهيد للأسئلة التالية بعد التقديم .. ضحك ، و أخد يدي و سألني مرة ثانية ، تيجي أعزمك على حاجة ؟ بعد أن إستفقت من حالة الذهول ، و تأكدت لدي الرؤية ، بأنني أولا أتحدث مع أسامة الباز بشحمه و لحمه ، و أنه هو بذاته ، يعزمني على حاجة .. قلت ( بالطبع ، يشرفني طبعاً طبعاً .. ) كل هذا و مازالت يدي في يده ، فما كان منه إلا أن وضع يده الأخرى على كتفي ، و قادني ماشياً إلى إحدى الطاولات في بهو الفندق .. فاتني أن أقول ، أنني و رغم عدم ملاحظتي لأي حراسات ، إلا أنني في الثانية ، أو ربع الثانية الأولى و أنا مازلت آخذ نفساً لأسلم على الرجل ، ظهر أمامي و بيني و بينه رجال لا أعرف من أين أتو ، هل إنشقت الأرض و أخرجتهم أم أنهم نزلو من سقف الفندق ، لا أعرف ، و لكنه نظر إلى بإبتسام و نظر إليهم ، فتقدمت منه و تحدثت .. 
- على الطاولة ، بادر هو كسراً للجليد ، و تشجيعاً لي بالسؤال عن ما أفضله من مشروبات ، ساخنة أو باردة ، أو ربما وجبة ؟ الحقيقة أنني عندما قال لي ربما عايز تاكل حاجة ؟ أحسست أن مسار اللقاء يكاد أن ينحرف .. فبعد أن قدمت نفسي و شددت على هويتي كفلسطيني ، راعني السؤال عن الطعام .. فأنا لا أريد أن ينظر إلى على أنني جائع  محتاج .. أو أي شئ من هذا القبيل .. بل أنا فلسطيني ، معتز بهويته ، جاء ليحيي رجل له في قلب أبو عمار ( كما عرفت) معزة خاصة .. فقلت بتردد يساوره لحن المعاتب ، لا لا ، آكل إيه .. أنا هنا علشان أتشرف بلقاء سيادتك و أسألك عن شوية حاجات بس .. و ياريت تسمح لي سيادتك ، أني أتجرأ و أعزمك أنا .. ( و هنا شعرت بأنني قد رددتها عليه إن كان قد قصدها وهو ما سارع لتوضيحه فوراً ) ، فضحك  ، و قال / مافيش فايدة .. الفلسطيني إحنا خليناه يشك في أي كلمة أو عمل ، يا إبني أنا كنت بعزم عليك بروتوكولياً بس .. إيه رأيك ناخد شاي ؟ قلت له شاي فليكن شاي .. 
طرحت عليه فكرة قبول منظمة التحرير لمبدأ التفاوض ، و قبولها لقرارات الأمم المتحدة و أنهيت مرافعتي التي لم يتخللها أي إعتراض من الأستاذ العظيم أسامة الباز ، سوى ، أنه كان يصب الشاي و ينظر إلي ، بكل إنصات و إهتمام - كما بدا لي - أقول أنني أنهيت مرافعتي تلك بالقول ، أنني لو كنت إسرائيلياً لما ترددت لحظة في مد يدي للفلسطينيين ، و أنهم يجب أن يستغلوا الفرصة التاريخية ، بأن الشعب الفلسطيني يقوده رجل تقدمي عقلاني وسطي يرفض التطرف إسمه ياسر عرفات .. 
ضحك السيد أسامة الباز .. و أرجع ظهره للخلف و أمسك بحزامه و نظر إلى مدخل بهو الفندق ، فقال ، إيه ده  إنت إتأخرت ليه ؟ 
نظرت حيث ينظر ، فإذا باحد أقطاب الديبلوماسية المصرية السيد محمد إبراهيم كامل .. جاء و سلم و صافح بشدة  كأنه يعرفني منذ زمن .. حتى أنني شككت بأني قابلته و ربما تعشيت معه بالأمس ..و بعد أن إستقر على كرسيه ، قام الدكتور أسامة الباز بتقديمي قائلاً : الوحيدي محمد .. عاكساً إسمي مقدماً العائلة على اللإسم الأول ، و يبدو  أن إسم عائلتي  فيه من الغرابة و الجرس ما يجعله أكثر تمييزاً ، فهذا دأب معظم من أعرفهم في مناداتي بإسم العائلة لا بإسمي .. و لكنه أضاف ( الفلسطيني ) و نظر إلي متبسماً و قال : إلا من حق .. إنت منين في فلسطين يا وحيدي ؟  قلت من غزة ..  قال لي " عشان كده " فتساءلت كده إيه حضرتك ؟ قال يعني بتسأل و جرئ .. ( الحقيقة أنني شعرت بالفخر ) 
ثم أسهب ... شارحاً للسيد إبراهيم مرافعتي ، و منهياً بالتهكم على " تصريحي " بأن أبو عمار ( تماماً كما قال هو و لم يقل ياسر عرفات ) ، رجل عقلاني و غير متطرف .. فضحك الإثنان .. و تلون وجهي أنا .. و إحترت في سبب ضحكهما .. و نظرت إليهما بتساؤل و إبتسامة خجولة .. ثم تمتمت بأدب جم : ماذا ؟ هل فيما قلت شئ عجيب ؟ 
أجابني الدكتور أسامة الباز بتون صوته الشهير الرفيع المسطح : مش غريب ولا حاجة ، بس إيه تعريف التطرف عندك ؟ 
قلت له ، بتلعثم واضح .. اللفظ شارح للمعنى ، أقاصي المواقف ، إما الأبيض أوالأسود ، و لا يعرف المتطرف الألوان الأخرى .. قال لي يعني ، إما المكسب أو الخسارة ، صح ؟ 
قلت له ، صح !!! 
قال ، يعني المكسب هو أن تأخذ حقك ، أو تبدأ بأخذ حقك من اللي سرقه منك .. صح ؟
قلت له : صح 
قال .. في نظر غريمك ، لما تاخد منه حاجة ، أي حاجة ، تبقى إنت متطرف ولا متعقل ؟
قلت له في التيجة ، الأخذ ، أقرب إلى تعريف سيادتك للتطرف ، و لكن قد نختلف على الوسيلة .. 
قاللي ساعات زمان كان البنج بضربة شومة عالدماغ ، كانت متطرفة .. الأيام دي ، بحقنة صغيرة في الوريد ، نقطتين و تكون في عالم تاني .. و النتيجة واحدة ... صح ؟
قلت له صح ... 
قاللي يبقى الوسيلة مش هي القصة ، النتيجة هي القصة .. 
اللي بيسمو نفسهم متطرفين ومتشددين واقفين بيبعبعوا ، و يصرخوا عالحدود ، و يقولوا هندبح و نعمل و نسوي ، و في النتيجة ما بيعملوش ، و إذا عملوا بيشتغلوا غلط ، و بيجيبوا لنفسهم و لناسهم المصايب و المخاسر ، و إسرائيل بتاخد و بتكسب .. أبو عمار ما بيقولش ، بيشتغل ، و بيستخدم حقن بنج بدل الشومة ، بس بيكسب .. يبقى مين المتطرف ؟