عودة إلى تفاهة الشر والاعتذار عنه..!! حسن خضر

الثلاثاء 28 مايو 2019 12:09 م / بتوقيت القدس +2GMT
عودة إلى تفاهة الشر والاعتذار عنه..!! حسن خضر



ذكرت سلمى العايدي، في معرض التعقيب على مقالة الثلاثاء الماضي، أن الإشارة إلى حنّا أرندت، "لم تكن ملائمة"، وبررت ذلك بالقول إن آيخمان، وغيره من جلاّدي النازية، كانوا موظفين أطاعوا الأوامر، ولم يكونوا حتى مسكونين بكراهية شخصية إزاء أشخاص ساقوهم إلى المحرقة. واستشهدت في هذا السياق بزيغمونت باومن، وكلامه عن المحرقة بوصفها نتاجاً حتمياً للحداثة. وبالنسبة لفقهاء الظلام، فهؤلاء في رأيها لم يكونوا جزءاً من بيروقراطية الدولة، بل كانوا واعين لرسالتهم، ومشحونين بكراهية عميقة ومطلقة تبرر القضاء على أعدائهم العلمانيين.
والواقع أن الرد أسعدني لأكثر من سبب، ففي مجرّد رفع مستوى النقاش إلى هذا الحد، والتذكير بمرجعيات وثيقة الصلة بالموضوع لتبرير الاختلاف، ما يعني أن في كل نقاش على هذا المستوى ما يُغني الموضوع نفسه، ويُسهم في توسيع آفاقه. والواقع، أيضاً، أن مشهد آيخمان، في قاعة المحكمة في القدس، عام 1961، كما صوّرته حنّا أرندت في كتابها "أيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشر"، كان في ذهني لحظة الكتابة، خاصة الصورة التي رسمتها للمجرم في القفص، والمحاط برجال شرطة شرقيين.
ومع ذلك، ولذلك، قبل الدفاع عن صواب الإشارة إلى "تفاهة الشر" في معرض المقارنة مع فقهاء الظلام، أود التذكير بحقيقة أن الناقد الفرنسي ـ البلغاري تزفيتيان تودوروف سبق باومن في توصيف الإبادة الجمعية، بما تعني من عقلانية مجرّدة من العواطف، وإدارة وتنظيم، وعلاقات بيروقراطية، وذلك في كتاب بعنوان "فتح أميركا" بمناسبة مرور خمسة قرون على الفتح. وقد نشر صديقنا بشير السباعي، الذي رحل في الآونة الأخيرة، ترجمة عربية بديعة للكتاب.
وإذا انتقلنا إلى موضوع المقارنة، فإن رأي باومن، وحتى إذا أضفنا تودوروف، وهناك عشرات الأسماء التي تتبنى الرأي نفسه، يمثل جانباً من نقاش لم يتوقف، بعد، حول معنى ومبنى المحرقة النازية. فعلى الجانب الآخر ثمة من يتبنى رأياً مخالفاً تماماً، هناك دانيال غولدهاغن، الذي صاغ مرافعة في كتاب ذائع الصيت بعنوان "جلاّدو هتلر الراغبون" مفادها أن إرادة القتل تكاد تكون عضوية، وأن الناس العاديين في ألمانيا، وبلدان أوروبية، كانوا مسكونين بالعداء للسامية.
ولنلاحظ أن العودة إلى التاريخ لصياغة مرافعة من نوع ما تكون، دائماً، مسكونة بأسئلة وتساؤلات الحاضر، وحاجاته ورغباته، أيضاً. لذا، في إعفاء المجرمين، في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهزيمة النازية، من المسؤولية، وإلقائها على عاتق الحداثة وبيروقراطية الدولة، ما يتجلى كعامل تخفيف للمسؤولية الجمعية.
 وعلى مقلب آخر، في مرافعة غولدهاغن ما يضفي قدراً إضافياً من المصداقية على فكرة تقليدية في أيديولوجيا الصهيونية الأولى مفادها أن العداء للسامية لا يزول ولا يدول. والمفارقة، في هذا الشأن، أن نورمان فنكلستاين فنّد في "محاكمة أمّة" المرافعة المذكورة بالتدليل على حقيقة أن صاحبها أساء استخدام الأرشيف، ولم يكن أميناً في النقل.
ومع ذلك، ولذلك، الإحالة إلى "تفاهة الشر" في معرض المقارنة، والكلام عن فقهاء الظلام، تستدعي، أيضاً، التفكير في معنى "تفاهة الشر"، وهناك، في الواقع اجتهادات كثيرة، في هذا الشأن، ولا يتسع المجال لذكرها. لذا، ربما تجدر العودة إلى مشهد الرجل الصغير، في القفص، المحاط برجال شرطة شرقيين ذوي بشرة داكنة، وشوارب، كما صوّرتهم أرندت، كمدخل لأحد المعاني المحتملة لتفاهة الشر.
فالمشهد، الذي تراه أرندت بعيون المركزية الأوروبية، يتجلى ككوميديا سوداء، ويُحرّض على التساؤل: كيف يمكن لشخص كهذا، ولأمثاله، من الروبوتات البشرية قليلة الكفاءة والذكاء، أن يصنعوا جحيماً بهذا الحجم؟ وهل ثمة من عقاب يوازي الجريمة؟ وإن كان كذلك، فهل عقاب كائن كهذا هو العقاب؟ وما يعني أن العدالة تحققت؟ وقد راودت هذه الأسئلة، أرندت نفسها، وبعض قادة الصهيونية السياسية والثقافية، الذين عارضوا، في ذلك الوقت، فكرة المحاكمة، وإعدام آيخمان، لما في الأمرين من اختزال للكارثة في صورة شخص كهذا، وتقليل من حجم الجريمة.
لذا، في دلالة تفاهة الشر، في معرض المقارنة مع فقهاء الظلام، ما يتجاوز مسألة ما إذا كانوا موظفين، أو ما إذا كانوا روبوتات بشرية، أو سكنتهم كراهية عميقة ومُدّمرة. ثمة ما هو أبعد، وفيه ما يحيل إلى كينوناتهم الصغيرة، وعالمهم الضيّق، واستيهاماتهم الجنسية، وفقرهم السياسي والإنساني، وما أود تسميته بالتشبيح الفكري والثقافي، وكان في وسعهم، دائماً، تعويض ما ينقصهم من معرفة وثقافة، بتجنيد ما دعاه لينين، في سياق آخر، طبعاً، "بالحمقى المفيدين"، من أبناء الحواضر.
ومن هنا جاء تعبير "الكومنترن" الذي ورد إلى الذهن، في لحظة الكتابة، بقدر من السخرية يُعمّق الإحساس بتفاهة الشر. ففي ملاحظة لاذعة يذكر مكسيم رودنسون أنه كتب في شبابه بحثاً طويلاً، وأراد نشره في "لومانيتيه" مجلة الحزب الشيوعي الفرنسي، لكن المسؤولين وجدوا نقيصة في البحث لأنه لم يستعن بآراء العلماء السوفيات في الموضوع. وبمعنى من المعاني، ولأسباب وثيقة الصلة بالمال، والمصارف، وسلطة الدولة الأم ومشروعها، تحوّل فقهاء الظلام إلى "علماء سوفيات"، أيضاً، ومرجعيات يندر أن يخلو منها موقع للإسلاميين على الإنترنت.
لم يستقر في وعي العالمين العربي والإسلامي، بعد، حجم الكارثة التي صنعها هؤلاء. ومع ذلك، ليس من السابق لأوانه القول إن في عالمهم الضيّق، وميلهم إلى العنف، واستيهاماتهم المريضة، وغزواتهم الفكرية، وما وسمها من تشبيح وتطاول على منجزات قرن من التنوير، في الحواضر، من جانب محدثي نعمة، ما يُحرّض على التفكير، في مناسبة اعتذارهم، وعنه، في تفاهة الشر.