خديعة الورشة والمثال الصومالي..عدلي صادق

الإثنين 27 مايو 2019 03:50 م / بتوقيت القدس +2GMT
خديعة الورشة والمثال الصومالي..عدلي صادق



يختلف الكلام في أوقات الحرب، عن الكلام بعدها. ذلك لأن واجب شحذ الهمم لمقاومة العدوان والحفاظ على الروح المعنوية، يختلفان عن واجب أخذ العبرة والتأمل وفحص وقائع الحياة وخلفيات السياسة، وتقييم أداء الممسكين بمقاليد الأمور، الذين يتحكمون في حياة الناس ويحددون الخيارات الداخلية، ويموءون كالقطط أمام جبروت الجرافة التي تتقدم لهدم قضيتنا، فيتركون مهمة التصدي للشبان على مواقع التواصل!

في جلسة استفسارات مع أحد مسؤولي سلطة حماس في غزة، تناولت نتائج العدوان الإسرائيلي الأخير؛ تحدث وكيل وزارة الأشغال ــ حسب توصيفه الوظيفي ــ  عن الخسائر التي مُني بها قطاع غزة خلال جولات العدوان المتكررة. وقد وصف الرجل جولة العام 2014 بأنها الأعنف منذ خمسين عاماً، وكان ذلك ــ على سبيل التدقيق ــ  مغايراً لحقائق التاريخ، إذ لم يحدث قبل خمسين سنة،  أي تدمير بهذا الحجم أو بأقل من هذا الحجم لقطاع غزة. فربما الرجل يقصد حرب 1967  التي لم تشهد تدميراً ذا أهمية. فالتدمير الذي حدث لغزة وكان أقل حجماً بكثير، وقع قبل 104 سنة أثناء الهجمات البريطانية الكبرى الثلاثة على غزة، في الفترة من مارس الى نوفمبر 1917 قُبيل نهاية الحرب العالمية الأولى، ومع بدء الحملة على فلسطين. ففي معركة غزة الأولى وحدها، حسب توصيفها في التاريخ العسكري البريطاني، مُني الغُزاة بــ 523 ضابطاً وجنديا قتيلاً، وما يقرب من ثلاثة آلاف جريح، وفي المعركة الثانية كانت خسائر المعتدين 509 قتلى ونحو 4500 جريح من سلاح المدفعية البريطاني والأذرع المهاجمة وبخاصة كتيبة ويلز والكتيبة الهندية، وفي نوفمبر حدثت الغارات الجوية البريطانية المكثفة، التي طالت جزءاً معتبراً من مئذنة المسجد العمري، ودخل سلاح المظليين وازدادت الخسائر البريطانية، لكن غزة سقطت يوم 7 نوفمبر، بعد أن أدت ما عليها، وانفتح طريق اللنبي الى القدس!

 وفي وصف وكيل الأشغال لعدوان 2014  تناسىى الإشارة الى العدوان الإجرامي الشامل الذي بدأ يوم 27 ديسمبر 2008 واستمر حتى 18 يناير 2009، وكانت الخسارة فيه أشد فداحة وطالت البشر والحجر والقيادات، وحدث فيه بعد القصف التدميري الشامل لألوف الأهداف، ومنها عشرات المساجد؛ توغل بري إسرائيلي. وربما يكون الرجل قد ارتجل تقديراته، لكنه عند الأرقام والأكلاف لم يرتجل شيئاً، واستذكر مؤتمر القاهرة الذي تعهد فيه المشاركون تخصيص خمسة مليارات دولار لإعادة الإعمار، ولم يقدموا حتى الآن سوى 808 مليون دولار.

واضح تماماً أن حجم الخسائر مهول بالنسبة لرقعة جغرافية ضيقة أوصلتها السلطات الفلسطينية الرسمية والحمساوية الى حال البؤس. وواضح ثانياً أن الشعب الفلسطيني في غزة، دفع ثمناً باهظاً أسهم فيه الفقراء والميسورون، وواضح ثالثاً أن المعوز والمشرد ومن فقد بيته لن يجد من يغيثه إغاثة حقيقة أو يعوضه تعويضاً حقيقياً، لأن الإغاثة نفسها، التي تحدث عنها الوكيل، ضحلة وأقل من أحجام الصدقات. فمن أصبح بيته غير صالح للسكن يحصل على 750 دولار بدل إيجار لمدة ستة أشهر، بواقع 125 دولاراً في الشهر، وهذا بمثابة مبلغ المواساة الأولى والأخيرة، وسيتوقف بعد ستة أشهر. أما الذين أصبحت بيوتهم ركاماً وأثراً بعد عين، فكلٌ من هؤلاء يحصل  خلال الستة أشهر على 1200 دولار حسب حديث وكيل الأشغال، بواقع مئتي دولار لكل واحد من الأشهر المشمشية الستة!

طالما أن الناس تُنكب بالعدوان، في أرواحها ومقدراتها وبيوتها وأعمالها ومصالحها، فلماذا لا يجلس وجهاء القوم مع أنفسهم، كلٌ في شرنقته، لكي يُقيّم خياراته ويصارح الناس بأخطائه بكل شجاعة ويستغفر رب العالمين؟

يتذكر كاتب هذه السطور، أنه قبل انتهاء أجل الهدنة في ديسمبر 2008 خاطب حماس عبر شاشة تلفزيون السلطة، قائلاً لها، إننا نؤيدكم في عدم تجديد الهدنة مجاناً، ولكن لا تطلقوا النار، لأنكم إن أطلقتموها سيدمر العدو غزة ويغتال منكم قيادات، وأنتم لن تحرروا الضفة. وكان المحتلون ينتظرون إطلاق النار ويريدونه لكي يشنوا الحرب. الآن نقول، لو كان ما قلناه يجافي المقاومة، لما كانت حماس قد ارتضته لنفسها اليوم. فلماذا لا يجري تقييم موضوعي للخيارات؟ فليس معنى وقف النار أننا تخلينا عن القضية وعن السياق التاريخي للنضال الوطني وعن التفريط ورفض صفقات القرون كلها!

و طالما إن الناس، بخلاف كل المصائب الأليمة،  تُنكب وتُعتصر، بالجباية والمكوس والحصار والغرامات واشتراطات السوق،  وتألم بهراوة السلطة القائمة، وتُنكب وتتعرض لغدر عباس في أرزاق موظفيها وخدمات حياتها ومخصصات شهدائها؛ فمن سيكون إذن، الذي أوحى للأمريكيين والصهاينة بفكرة الإغاثة بدل السياسة، وبورشة البحرين بدل مؤتمر تسوية بالمرجعيات الدولية. إن معنى الورشة نفسه، يقوم على افتراض أن الناس في غزة منكوبون في حياتهم وفي لقمة خبزهم وفي سلطاتهم وفي أحلامهم،  ما يفتح للأوساط الصهيونية الأمريكية  الطريق  للبدء بوعود الإغاثة، على الطريقة الصومالية، وبيعنا أوهام السعادة وأنهم سيجعلون لنا القشة معدناً في قادم الأيام. فمن الذين فتحوا الطريق الى البحرين؟ بعدئذٍ سيُقال لمن يستذكر وضع الصومال الراهن المُزري، ويرفض الخديعة: إن الصاماليين يستحقون، فقد كان الحق عليهم!