أميركا وإزالة آثار الجريمة..عاطف أبو سيف

الإثنين 27 مايو 2019 02:27 م / بتوقيت القدس +2GMT
أميركا وإزالة آثار الجريمة..عاطف أبو سيف



يواصل الرئيس الأميركي وطاقم إدارته ضغوطهم من أجل تمرير الصفقة التي تتم بموجبها تصفية القضية الفلسطينية بشكل كامل وتثبيت الخطأ التاريخي الذي تم على ارض فلسطين قبل 71 عاماً وإقرار عربي وفلسطيني قبل وبعد ذلك بكل ما جرى. وفي هذا يتم تجاوز محاولات تصحيح الخطأ التاريخي أو حتى التلطيف من شدة وقعه لصالح شرعنته وبرضا الضحية. بعبارة أخرى المطلوب هو أن تقر الضحية بأنها كانت على خطأ حين لم تسمح للجلاد أن يقوم بذبحها برضاها ولم توفر له السكين حتى. ولتحقيق ذلك لابد للضحية من أن تشارك في الاحتفال المهيب الذي تتلى فيه الصلوات على ماضيها وحاضرها ومستقبلها. فقط وفق هذه الطقوس "الترامبية" يمكن تحقيق العدل. العدل القائم على جعل الظلم حقاً وإزالة كل مطالب للمظلومين. وعليه فإن ما يسعى إليه ترامب ليس تدوير زوايا الصراع وتبادل الأدوار حيث يغدو الجلاد ضحية وجب الاعتذار لها ويصبح المظلومون جلادين يجب أن يقر بذنوبهم، بل إزالة مفهوم المظلومية بكامله لارتباطه بالماضي الذي وقع فيه الظلم التاريخي. وفق ذلك فعلى العرب أن يطبعوا علاقاتهم مع إسرائيل قبل أن يتم الحديث عن أي حقوق للفلسطينيين أو قبل أن يتم التفكير في تسوية بعض الأمور المتعلقة بذلك. على العرب أن يعبروا عن حبهم لإسرائيل ويكونوا صادقين في ذلك كشرط ومدخل من أجل النظر فيما يمكن لإسرائيل أن تقدمه لهم.
إنها العقلية التي حكمت الرجل الأبيض بسكان أميركا الأصليين حين قام بذبحهم وإبادتهم لإقامة مستوطناته هناك في واحدة من أبشع لحظات التاريخ البشري ثم قام بتجاوز الأمر من خلال عملية نسيان وإزالة منظمة من الوعي. لم يعد الرجل الأبيض مستعمراً سرق البلاد ولم يعد سكان البلاد الأصليون ضحايا مجازر مؤلمة بل تمت تسوية الأمر وكأنه أحد معطيات التاريخ بحيث يتم نيسان كل ما جري ويصار إلى جعل الواقع ومآلاته حقائق لا يمكن تخيل مسار التاريخ دونها. وبقدر ارتباط هذا بالواقع فإن ثمة ارتباطا أقوى بمسار التاريخ، ليس بوصف التاريخ ماضياً بل بوصفه فعلا حتميا. فانتصار الرجل الأبيض هو انتصار للخير وهو وأهم من ذلك إحدى حتميات التاريخ التي أوجبتها الطبيعة. وربما تتم الاستعانة ببعض النصوص المقدسة لإثبات ذلك. من هنا التدين الزائف لرجالات الحكم في البيت الأبيض في الدفاع عن العبارة المضللة المسماة "الحلم الأميركي" الذي لا يعني إلا إنكار ما تم من ظلم تاريخي بحق سكان البلاد الأصليين والإقرار بسيادة المستوطنين الجدد. الأمر ذاته يمكن أن ينسحب على الكثير من الأحداث. لذلك لم يكن عجيباً يوماً وقوف البيت الأبيض بشكل مستمر إلى جانب أنظمة الطغيان والبطش والتعذيب وانتصاره لصالح الأنظمة غير الديمقراطية في أميركا اللاتينية، بل مساندته للانقلابات التي تتم على النظم المنتخبة، لأن ثمة شيئا جينيا في تكوين النظام وذاكرته تعزز ذلك.
وهذا يفسر الشغف الأميركي في حماية أخطر نظام اقتلاع تم في القرن العشرين والمتمثل بما قامت به العصابات الصهيونية في العام 1948 ونتج عنه إنشاء كيان غريب على أحلام الشعب الفلسطيني صاحب الأرض. ثمة تشابه في التجربة وفي النشأة وفي النظم العقلية والعاطفية التي تحكم المشروعين وفي المحصلة فإن الدعم المفرط ليس إلا امتنانا للتاريخ على تأكيد المسار الأعوج للتجربة السابقة. ليس هذا فحسب بل إن التجربة الأميركية في تشويه مسار التاريخ ومحاولة إرغام الضحية على الإقرار بذنبها يجب أن يتم تحقيقه في الحالة الإسرائيلية وعلى الولايات المتحدة أن تساعد إسرائيل في تحقيق ذلك. من هنا مثلاً ما يتم تصوره من كون واشنطن "عراب" تل أبيب في كل شيء. وأحد المفارقات المضحكة ربما أنها راعية عملية السلام التي لم تر منها واشنطن إلا كونها فرصة لفرض إسرائيل في المنطقة وأن الغاية المنشودة والتركيز حتى اللحظة على تطبيع المحيط معها. 
هل يبدو مؤتمر المنامة جزءا من ذلك؟ لا يمكن إلا أن يكون كذلك. صحيح أن كل شيء لابد أن يفشل أمام الممانعة الفلسطينية لأنه انتهى الزمن الذي يمكن للآخرين أن يقرروا نيابة عن الشعب الفلسطيني دون علمه ودون مشاورته، لكن أيضاً يظل السؤال هل يستطيع الرجل الأبيض أن يفرض إرادته على أمة بأكملها: الأمة العربية! 
إن محاولة تمرير صفقة القرن بالقطعة بغية تخفيف الممانعة لن ينجح في تمريرها. ومع هذا فإن البيت الأبيض يسعى جاهداً من أجل تحقيق الحلم بمسح كل آثار الجريمة التاريخية التي وقعت على الشعب الفلسطيني والبداية عبر الموافقة العربية. 
إن استعادة التاريخ وجلب الاستعارات القديمة يساعدان في فهم دينامية ما يجري. لكن المؤكد أيضاً بأن ما فشل المستعمرون في تحقيقه قبل 71 عاماً حين كانت النية إزالة الشعب الفلسطيني عن الوجود وتحويله لذكريات مضت لن ينجح فتيان ترامب في تحقيقه من خلال البوابة العربية. وربما تحضر بعض الدول وبعض الأفراد لكن لا أحد يستطيع أن يفرض شيئاً على الشعب الفلسطيني، ولا أحد يستطيع إزالة آثار الجريمة عن وجه التاريخ، وبدل ذلك يجب العمل من أجل تصحيح الخطأ التاريخي وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل وقوع النكبة. فقط عبر وضع العدل على الطاولة، وليس وضع الدولارات، يمكن تصويب الماضي.