في غزة ..يأكلون من بقايا البسطات والعظام ويخلو منزلهم من مقومات الحياة الآدمية

السبت 25 مايو 2019 02:55 م / بتوقيت القدس +2GMT
في غزة ..يأكلون من بقايا البسطات والعظام ويخلو منزلهم من مقومات الحياة الآدمية



غزة- فلسطين-

أفزع ذلك الصوت القادم من ناحية الباب رنا كحيل وأطفالها الصغار؛ لكن قرع باب البيت استمر.. رجت مع ذلك قلوب الأطفال خوفًا، على الفور فتحت الباب لترى من الطارق، فكان صاحب البيت يطالب والدتهم بدفع "الإيجار" المتراكم عليهم مصحوبة بجملة من التهديدات بطردهم في حال لم يوفروا الإيجار وكلمات جرحت قلبها: "أنا بسكنش نسوان"؛ كان الموقف الذي حصل قبل أيام محرجًا للأم أمام جيرانها في مخيم "الشاطئ" بمدينة غزة.

بين زقاق مخيم الشاطئ للاجئين، غربي مدينة غزة، تعيش كحيل بمفردها مع أطفالها العشرة، في بيت بالإيجار مسقوف بـ"الإسبست"، من الداخل مظلم معتم، وكأن أشعة الشمس لا تلامس أجساد أطفالها الصغار، الحرارة فيه مختلفة عن الخارج في فصل الصيف، أما في الشتاء فيتسابق الأطفال وأمهم مع المطر، لكنه سباق من نوع مختلف، حيث يقومون بوضع صحون أو أوانٍ تحت كل ثقب، حتى لا تتدفّق المياه داخل الغرف، وحينما تمتلئ يسكبونها خارج المنزل، ويعاودون الكَرَّة تلو الأخرى.

وصلنا البيت عند الساعة الثانية عشرة ظهرًا، ما أن انتصف قرص الشمس المتوهج؛ اعتقد الأطفال – كما الجيران – أننا فريق اغاثي، وليس طاقما صحفيًا، كانت عيون الأطفال حينما أذن لنا بدخول المنزل، تتجه نحو الخلف ظنًا أن هناك مفاجأة نخبئها لهم، كما يحدث في الكثير من الحالات، لكن لعل هذه القصة تحدث ما يتمناه الأطفال وتصل رسالتهم إلى ذوي الشأن والأمر، لانتشال هذه الأسرة من براثن الفقر، ومستنقع المعاناة، فمن سيلبي النداء؟! سؤال أتخيله في عيون كل طفل قابلته منهم، تخفيه كل ابتسامة ممزوجة بالحزن حاولوا إظهارها لنا، أتخيله في صوت الجوع الذي تعكسه ملامح وبنية أجسادهم.

بيت متهالك

في جولة سريعة في المنزل، تدرك حجم المعاناة، فأرضيته مفروشة بـ"حصيرة" وحيدة ممزقة لا أعرف عدد ثقوبها، لا يوجد في الصالة الأمامية سوى كرسيين بلاستيكيين لم يكفيا لجلوسنا؛ فأجرينا المقابلة "الصحفية" ونحن واقفون، هنا لا يوجد أي خزانة لاحتواء ملابس الأطفال المكومة في إحدى الغرف، ولا يوجد أي لعبة تلهو بها الرضيعة نور ولا أخوتها، محرومون من اللعب، كما حرموا من العيش حياة كريمة أمام قسوة الظروف في غزة، كإحدى نتائج الحصار الإسرائيلي الذي ألقى بظلاله على معظم مجالات الحياة.

ينام وديع وإخوته: منى، إياد، عبير، سندس، نور، أسعد، يوسف، في غرفة واحدة مظلمة معتمة، يغلقون عيونهم كل مساء على حلم يتمنون تحقيقه بالعيش حياة كريمة أو أن تتبناها جمعية "إغاثية" لكنهم سرعان ما يستيقظون على صوت جوع ينخر معدتهم في الصباح، في تلك الغرفة أكلت الرطوبة جدرانه وأزالت الدهان، ينام الأخوة الصغار على فرشات لا تكفي لعددهم، يخلو المنزل من ثلاجة، أو غسالة، يأكلون مما يحصلون عليه من بقايا خبز أصبح عند المخبز المجاور لهم "بائتا" أو مما يجمع أطفالها من خضار "فاسد"، وهكذا يمضي يومهم.

أمام غرفة صغارها وحولها أطفالها حررت كحيل دموع حزنها التي سالت منها وهي تروي لصحيفة "فلسطين"، حكاية وجعها مع الحياة قائلة بصوت تقطعه الدموع وملامح وجه حزين يرسم صورة أخرى لحال هذه العائلة: "لا يوجد معيل لنا، ولدي تسعة أطفال لا أعرف كيف أطعمهم (..) صعب أن تعيل سيدة عائلة كاملة بمفردها ولا يوجد عندي دخل؛ لا أعرف ماذا أفعل؟ صرت أفكر بالمبيت بالشارع بعد تراكم الإيجار علي ومطالبتي المستمرة من صاحب البيت بشكل محرج أمام الجيران".

واقع وأحلام طفولة

سألنا الطفل وديع (9 سنوات) الذي يتولى مهمة جمع بقايا الخضار المترامية عن تعامل أصحاب البسطات معه، بمجرد ما سمع السؤال السابق، هربت من عينيه دمعة وتبعتها أخرى وأخرى فاضت عيناه بها قائلاً وهو يحاول مسح دموعه: "بحكيلهم بدي خضرا خربانة لاخوتي .. بس هم بضربوني وبحكولي: روح روح"، من ثم يذهب إلى اللحام لجمع "العظام" يشتمون رائحة اللحوم من بقايا العظام "ريحة البر ولا عدمه" كما تقول والدته، وضع الطفل يده على عينيه بصوت خافت، تعكس دموعه التي سالت منه وجعه وحسرته: "نفسي أكون زي الأولاد اللي برا .. أعيش عيشتهم؛ أكبر وأشتري دار".

دخلت عبير (10 أعوام) عائدة من الامتحانات المدرسية بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، بدت متعبة منهكة، هذه الطفلة واخوتها يذهبون للمدرسة بلا مصروف ولا طعام، لا تخفي الطفلة ما تشعر به حينما تأكل زميلاتها أمامها فلا تملك إلا البكاء أمام ذلك المشهد المدرسي الصعب على قلبها، فتضطر لطلب إذن من المدرسة بعد الاستراحة المدرسية كي تسد جوعها من بقايا طعام زميلاتها.

بقربها تقف منى (15 سنة) طفلة نحيلة الجسم تظهر عظام يديها، تعاني من تصلب جلدي (نمو بالعظم دون نمو الجلد)، تحتاج كريمات لترطيب الطبقة الخارجية للجلد، وتعاني من ضغط شريان القلب، فأحيانا تكون هي محظوظة بقيام فاعلي خير بالتبرع بأدوية لها، وأحيانا تبقى تعيش مع مرضها وتتكيف مع حالها، لحسن حظها أن المنزل يخلو من أي مرآة كي لا ترى نموها البطيء والعظام التي تظهر بشكل واضحة عند اليدين "نفسي أكون زي البنات التانيين، آكل أكل منيح ويتم مساعدتي بالعلاج" هذا ما تتمناه، فهل ستصل رسالة منى ووديع وعبير إلى يد تلبي ما يتمنون؟ أم ستبقى تعيش في هذا الواقع المرير بلا أي حل؟.

عن صحيفة فلسطين - غزة 

HpHJ8t-3WiYZ3qVcph9GHJH1BdNYdRo2
czkQWD_ZbUukMlDfPhiQMW2H7mvZ6wNE