صفير.. آخر البطاركة السياسيين..عبير بشير

الثلاثاء 21 مايو 2019 10:40 ص / بتوقيت القدس +2GMT
صفير.. آخر البطاركة السياسيين..عبير بشير



عمره من عمر الكيان اللبناني المولود العام 1920، من رحم الحرب العالمية الأولى، وكان شاهد العيان الأبرز على سقوط المشروع السياسي للمارونية السياسية باغتيال الرئيس بشير الجميل. هو البطريرك مار بطرس صفير، أحد أهم المؤمنين بلبنان وطناً نهائياً للبنانيين، خارج الوصايات، وموازين حسابات السلطة الهشة. وكان إلى جانب الرئيس الراحل رفيق الحريري، وراء الاتفاق في الطائف على النص الدستوري القائل: "لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه". ويوم وصل صفير إلى بكركي، قال الذين عرفوه راهباً هادئ الطباع: صار للبنان بطريرك مثقف ومتواضع ومفكر حداثي ووطني.
سمح سقوط السلطنة العثمانية واتفاق سايكس – بيكو بإعلان لبنان في جغرافيته الحالية بعد جغرافية الإمارة الشهابية، ومتصرفية جبل لبنان في القرن التاسع عشر. وكان للبطريرك إلياس الحويك دوره المحوري في الإصرار على حدود لبنان الحالية خلال مؤتمر فرساي وبداية الانتداب الفرنسي على لبنان وسورية. 
نجح رياض الصلح ورفاقه في انتزاع الاستقلال من فرنسا الديغولية بمساعدة بريطانيا والاتحاد السوفياتي. ثم كان لخوري كسروان – صفير - ان يواكب الدور الذي لعبه البطريرك بولس المعوشي في الحرص على الوحدة الوطنية خلال أحداث 1958 الدامية في لبنان التي اختلطت فيها الحرب الأهلية بالصراعات الإقليمية والدولية.
قصة البطريرك صفير هي مختصر قصة لبنان، وما سماه هيغل "التاريخ الكلي". قدر البلدان الصغيرة أن تحكم عليها لعبة الدول الكبيرة، بأن تكون "صندوق بريد" و"ساحة" لتصفية الحسابات، وحروب الآخرين على أرضه. وقدر الاستثنائيين في البلدان الصغيرة ان يجيدوا فن "إدارة الرياح"، وإدارة الأزمات، والتفاني في محاولة التحول من ساحة إلى وطن. وهذا ما لعبه البطريرك صفير باقتدار.
في بكركي، حيث الثوابت التاريخية، أمسك صفير - كنائب بطريركي - بحقائق اللعبة السياسية على المسرح اللبناني، وكواليسها، ورافق صعود لبنان الوطني والسياسي والاقتصادي والفكري والأدبي والفني. غير أنه وصل إلى سدة البطريركية العام 1986، في بدايات مرحلة الانحدار في كل شيء، بعد استقالة البطريرك أنطونيوس خريش، وبقي حتى استقالته العام 2011، البطريرك الكبير لكل لبنان. زيارته الأولى الى خارج بكركي كانت الى دار الفتوى للقاء المفتي الشيخ حسن خالد. وكانت المودة مشتركة بينه وبين الإمام موسى الصدر والعلامة الشيعي محمد مهدي شمس الدين.
بوصول صفير إلى بكركي، كان البيت المسيحي منقسما، ويعاني ما يعانيه: رئيس الجمهورية – أمين الجميل - محاصر بخلاف حاد مع الرئيس السوري، حافظ الأسد، حمل القيادات الإسلامية اللبنانية الموالية لسورية على مقاطعته، وصراع مسيحي – مسيحي دموي وشرس.
كان صفير يمثل القوة الهادئة التي تعطي الأولوية القصوى للحرية والسيادة والوحدة الوطنية. صلابة من دون تصلب، وثوابت من دون تجاهل المتغيرات. سرعة بديهة وقدرة هائلة على السخرية الناعمة، أستاذية في الأدب العربي وثقافة فرنسية عميقة.
عندما منح البطريرك مار بطرس صفير غطاءه لاتفاق الطائف، كان يعرف أنه يطوي صفحة من صفحات التجربة السياسية المسيحية في المشرق، وفي لبنان الذي ظل في عقل المسيحيين "وطنا مسيحيا يتسع للآخرين". ورغم معرفة البطريرك صفير أن اتفاق الطائف يشكل تغييرا في بنية السلطة اللبنانية لصالح رعاية سورية للطوائف السنية والشيعية والدرزية، ولكنه مضى في تغطية الاتفاق: فقد اختار أهون الشرين.
كان الزمن يدور دورة كبيرة، في تلك اللحظة المسيحية الحرجة، اختار البطريرك صفير، أن ينحاز إلى حماية ما تبقى من الوطن اللبناني، دون مزيد من الأوهام والمغامرات. وحمى مسيحيي لبنان، حين حمى لبنان الوطن، مشرفاً على إعادة تنظيم انتشار المسيحيين في الحياة الوطنية والسياسية، على قاعدتي الدولة والسيادة معاً. وشارك بحماسة في العمل على تأسيس اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي المسيحي، يوم كان المتربصون باتفاق الطائف، وبلبنان الوطن يحفرون في جروح الطائفية، ليبقى هناك بيروت شرقية وبيروت غربية!
لم يتسامح البطريرك صفير مع من انتهز عنوان الدولة بعد اتفاق الطائف، من الشخصيات المسيحية، ليكون شريكا في نظام الوصاية السورية، طمعا بامتيازات شخصية. كما لم يغط من قبل، من غامر بالدولة، دفاعا عن السيادة. وقاوم الدعوات المسيحية، التي ارتفعت أصوات أصحابها في الحرب الأهلية، مطالبة بالتقسيم في لبنان.
العقل العميق للكنيسة المارونية يرفض التمرد على الدولة، أيا تكن صفة الحاكم، لذلك لم يغط البطريرك إسقاط الرئيس إميل لحود بالقوة، إبان ثورة الأرز، عقب اغتيال الشهيد رفيق الحريري، فلا دولة بلا سيادة، ولا سيادة بدون دولة. وتحولت عظة الأحد في بكركي إلى النصوص المرجعية الأولى حول السيادة اللبنانية، منذ العام 1993 حتى الانسحاب السوري العام 2005. 
تكمن أهمية البطريرك صفير في أنه فهم باكرا معنى الطموحات السورية فيما يخص لبنان. هناك أجيال سورية نشأت على فكرة أن لبنان "خطأ تاريخي" وأن الهدف من قيام لبنان المستقل هو حرمان سورية من جزء من أراض تشكل سورية الطبيعية. عندما كان يُسأل البطريرك صفير عن موعد ذهابه لسورية، كان يرد: "أذهب إلى الشام بعد أن تذهب الشام من لبنان... ليس لسورية في لبنان حلفاء بل لسورية في لبنان عملاء، وزبائن ومنتفعون. 
تصرف كثيرون على أن سورية باقية في لبنان إلى الأبد، غير أن مجلس المطارنة الموارنة فاجأ الجميع ببيانه الشهير في أيلول العام 2000، مطالبا بانسحاب القوات السورية بعدما انسحبت قوات الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب اللبناني في أيار من العام نفسه. 
قال ذات مرة، الموارنة للبنان، وليس لبنان للموارنة. وكان سلفه انطون عريضة قد قال، لم يكن لبنان مرة إفرنجياً لكي يعود عربياً. ومن شرفات بكركي، تعلم انه سواء اختلف العرب أم تصالحوا، تخلفوا أم تقدموا، لا هوية بديلة من العروبة. وكان منح الصلح يقول، إن الإمام محمد عبده الذي نفي الى لبنان، عاد الى مصر ومعه نموذج الميثاقية في العلاقة بين الطوائف تحت مظلة وطنية وقومية واحدة.