استلاب الوعي..عاطف أبو سيف

الإثنين 22 أبريل 2019 07:57 م / بتوقيت القدس +2GMT



العقل بقدر ما هو حارس الجسد والمسيّر الحقيقي له، فإنه في الكثير من الأحيان من الهشاشة، بحيث يتعرض بسهولة لعمليات إزاحة واستلاب. ولا يمكن تخيل بشاعة ما يمكن أن يتعرض له العقل من استلاب وإزاحة إلا بتخيل ما يمكن أن ينتح عن تلك العمليات من إعادة تحكم كامل في حياة الناس. والمفارقة أن العقل جهة التحكم والسيطرة والإرادة الحرة هو ذاته يصبح عرضة لاستلاب الإرادة وللتحكم به والتقرير نيابة عنه. والمؤكد أن مثل هذه العمليات لا تتم بسهولة رغم سهولة نتائجها وربما الانبهار الذي يصاحب مراقبة ما تقود إليه. ومرة بعد أخرى فإن ما يجري من عمليات الاستلاب والسيطرة على العقول يكشف كيف يمكن إعادة تشكيل الإنسان عبر عقله حتى يصبح آلة يسهل التحكم بها.
وخبرات البشرية لم تكن إلا سلسلة من صراع الإرادة وتنافسها. وهو صراع تم ترجمته وربما أيضاً يطيب للبعض أن يقول كانت غايته صراع البقاء. وبصرف النظر أين نقف في رؤيتنا للتاريخ البشري، سواء اعتمدنا عالم هوبس حيث قتال الجميع ضد الجميع، أو روسو حيث بحث الجميع عن الخير العام، فإن المؤكد أن الصراع البشري أساسه السيطرة والتحكم. وليست المقولات الإيجابية عن صفحة التاريخ البيضاء إلا نظرة متفائلة للماضي بحثاً عن مثيل لها في المستقبل. أما حقيقة الأمر فإن ثمة صراعاً مريراً في الحديقة الخلفية للوعي عنوانه السيطرة والهيمنة على الآخرين. ويمكن إعادة تركيب الماضي حتى يعاد تفسير التاريخ بما يتوافق مع كل ما نعتقد به. وبنفس القدر فإن إنتاج التكنولوجيا وعالم المعرفة المعاصرة والإنترنت ليس سوى بحث متقدم بأدوات معاصرة من أجل السيطرة. وربما اندحر الاستعمار لكنه أعاد إنتاج نفسه. تحاجج نظريات ما بعد الاستعمار باستمرار ظواهره بأشكال مختلفة. والعلاقة بين الشمال والجنوب يعاد تركيبها في منظومة العلاقات الدولية ضمن نسق الهيمنة والتحكم. قد لا يكون ذلك بإرادة ورغبة جميع الأطراف، لكنه مع الوقت يصبح واقعاً مقبولاً حتى إن تم رفضه لفظياً. إن ما يترتب على هذا الواقع هو عمليات استكانة كبرى لا يمكن تخيل التفاصيل الدقيقة لنتائجها لأن من يخوضها ويتعرض لها لا يشعر كثيراً بالمستقبل.
وحيث إن جوهر المستقبل مرتبط أكثر بالتفكير به، فإن سطوة الواقعة الناتجة والمرافقة في ذات الآن لعمليات السيطرة تلك لا يمكن أن تكون واضحة. وواقع الحال كما يمكن للأطر النظرية أن تكشف فإن الانفكاك من هذا الاستلاب الجماعي لا يمكن أن يحدث إلا بقرار جماعي، بمعنى بحث جماعي عن الخلاص. من هنا تحدث الهجرة من الجنوب إلى الشمال في رحلات انفكاك فردية وخلاص فردي لا يحقق الكثير من الرخاء رغم العوائد المالية التي يرسلها المهاجرون في الشمال إلى ذويهم في الجنوب. إن الخلاص لا يكون إلا بقدر الاستلاب ذاته وليس أقل من ذلك.
أما على صعيد الأفراد، فإن فكرة التاريخ نتجت عن تلك المحاولات لسيطرتهم على بعضهم بعضاً. وربما بالعودة إلى ما أشرنا إليه من نظريات العقد الاجتماعي، فإنها ليست إلا ترجمة لهذا الصراع والتوافقات التي تمت من أجل تسويته. لكن السؤال الكبير حتى بعد تمظهر أنماط التنظيم السياسي بكل تجلياته: هل تم حل هذا الصراع. من الصعب توقع نعم لهذا السؤال. إذاً إن جوهر فكرة الدولة قائمة على السيطرة واستلاب الإرادة. وبعيداً عن حمى الفكر الفوضوي وأصحاب نظريات اللادولة أو عدم الحاجة للتنظيم السياسي، فإن حقيقة فكرة الدولة بكل أشكالها ليست إلا إعادة إنتاج للهيمنة والسيطرة والاستلاب. ولم يكن الرفض الأساسي لماركسية الدولة والسعي إلى اليوتوبيا الخاصة بها والمشاعية المفترضة إلا استناداً إلى مقولات الصراع التي لا يمكن تخيل التاريخ دونها.
والأكثر بشاعة في كل ذلك هو تطوير الدولة والنظم السياسية لمناهج استلاب بشعة للسيطرة على مواطنيها. فرغم ما قيل عن فكرة الدولة، فإن جودة الحكم وما أفرزته تجارب الشعوب خففت من قسوة الاستلاب الافتراضي الذي تأسست عليه فكرة الحكم والتنازل الطوعي عن الحق فيه وفق العقد الاجتماعي. ومع هذا فإن سعي الدولة ذات جودة الحكم الرديئة بل المنعدمة للسيطرة على مواطنيها أوصلت تلك النظم إلى مستويات من الاستلاب غير مسبوقة. في تلك الممارسات يتم تطوير وسائل وأدوات خاصة لمصادرة العقل وعدم الاكتفاء بترويضه واستلابه لإرادته، بل أبعد من ذلك السعي نحو توظيفه لإعادة إنتاج عمليات الاستلاب. هل يعيدنا هذا لإعادة إنتاج الاستعمار. بكل تأكيد. ويكفي نظرة سريعة على الكيفية التي تستخدم فيها النظم القمعية جنودها وشرطتها لاستلاب إرادة المواطنين وقمعهم ومصادرة حريتهم. وربما المشاهد التي يقوم فيه المسلح بملاحقة النساء في الشوارع لقمع تظاهرهن من أجل حياة كريمة ومهاجمة البيوت التي قد يكون أحدها بيت جاره أو تكون إحدى تلك النسوة قريبته تدلل على مستوى هذا الاستلاب.
ما تقوم به تلك النظم هو تحويل عسكرها إلى حارس على حكمها. وخلال تلك العمليات المزيفة يتم استخدام شعارات كبيرة وطنانة وفق كل سياق خاص بكل نظام. وختاماً فإن السعي وراء استلاب العقل لا يتم إلا لغايات دنيوية يتم تغليفها ببلاغة لاهوتية سماوية، يتم وفقها تبرير الجرائم بحق المواطنين بلا وازع ولا ضمير. وتظل عمليات الإزاحة والاستلاب تلك حدوداً لا متناهية من إنتاج القمع وتلك قضية أخرى.