حول تحديث الخطاب الديني (1 من 2)..عبد الغني سلامة

الإثنين 22 أبريل 2019 07:56 م / بتوقيت القدس +2GMT
حول تحديث الخطاب الديني (1 من 2)..عبد الغني سلامة




يُعتبر ابن إسحاق (85 - 151 هـ) أول من كتب السيرة النبوية، بأمر من الخليفة أبو جعفر المنصور، ولولا ابن هشام (ت 218 هـ) لما عرفنا عن كتاب ابن إسحاق شيئا.. في مقدمة كتابه، والذي يعد أهم مرجع لدراسة السيرة النبوية ذكر ابن هشام أنه هذب سيرة ابن إسحاق، وحذف منها ما رآه غير مناسب.. وفي الواقع، كل من كتب في السيرة من بعد ذلك استند إلى هذين الكتابين.
كما يعد الإمام البخاري (194 - 256 هـ) أول من جمع الحديث الشريف، تبعه الإمام مسلم (206 - 261 هـ)، ثم جاء من بعدهم أصحاب الصحاح (النسائي، أبي داوود، الترمذي، ابن ماجة).. أما علوم الفقه فقد نشأت مع أبو حنيفة (80 - 150 هـ)، ومالك بن أنس (93 - 179 هـ)، والشافعي (150 - 204 هـ)، وابن حنبل (164 - 241 هـ)، وجعفر الصادق (80 - 148 هـ)، وكل ما كُتب عن الفقه بعد ذلك، إنما اعتمد على هؤلاء الأئمة الخمسة.
أما علوم التفسير فقد نشأت مع الطبري (224 - 310 هـ)، ثم البغوي (ت 510 هـ) والزمخشري (ت 538 هـ)، والقرطبي (ت 671 هـ)، وابن كثير (ت 710 هـ)، وجلال الدين المحلي (ت 864 هـ)، والسيوطي (ت 911 هـ)..
حتى علوم النحو والبلاغة والتقعيد وتنقيط الحروف، فقد تطورت على يد أبو الأسود الدؤلي (ت 69 هـ)، ثم الفراهيدي (ت 173 هـ)، وسيبويه (ت 181 هـ)..
من خلال هذه المقدمة المختصرة، يمكننا أن نتوصل للاستنتاجات الآتية:
ما نعرفه عن علوم الدين بجميع أقسامه وفروعه إنما عرفناه من خلال هؤلاء العلماء والفقهاء والمفسرين، وهؤلاء كما نلاحظ ولدوا وعاشوا بعد وفاة الرسول بقرن أو قرنين على أقل تقدير.. بل إن ما نعرفه عن حياة الرسول وأحاديثه الشريفة، يعتمد بدرجة أساسية على ما نقله لنا هؤلاء السلف..
الرسول الكريم تلقى الوحي، وانشغل طيلة حياته بالدعوة للدين، وفي عهد الخلفاء الراشدين انشغل المسلمون في حروب الردة (عهد أبي بكر)، وفي الفتوحات (بدءا من عهد عمر بن الخطاب)، وفي جمع القرآن الكريم (في عهد عثمان بن عفان)، وفي الفتنة الكبرى (مقتل عثمان، وحروب الخوارج والأمويين) منذ بداية ولاية علي بن أبي طالب.
وما يتوفر لدينا من آثار أركيولوجية ومصادر تاريخية موثقة عن تلك الحقبة شحيح جدا، أما تفسير القرآن، والتدوين، وجمع الحديث، وعلوم الفقه، والعقيدة، والسيرة... فقد نشأت وتطورت في أواخر العصر الأموي، والعصر العباسي الأول.
وفي تلك المرحلة المتأخرة ظهرت أيضاً التيارات والفرق والمذاهب الإسلامية المتعددة، وظهر علم الكلام، والعلوم الشرعية، والمعتزلة، والفلاسفة.. كما أن جميع من نعرفهم من علماء في الطبيعة والكيمياء والطب والفلك والفلسفة.. نشؤوا في تلك الفترة (800 - 1100 م).. أي بعد القرن الثاني الهجري.
بعد ذلك ظهر العديد من الشخصيات الإسلامية المهمة، مثل أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ)، صاحب إحياء علوم الدين، والنووي (ت 676 هـ)، صاحب رياض الصالحين، وابن تيمية (ت 728 هـ)، والذي يعد الأب الروحي للسلفية الإسلامية، وتلميذه ابن الجوزية (ت 751 هـ)، والعسقلاني (ت 852 هـ)، الذي يعد أمير الحديث.
إذا، الإسلام الذي نشأ في مكة، وبشّر به النبي الكريم، فهمه الصحابة آنذاك وفقاً للأرضية المعرفية التي كانت سائدة في حينها، ولم يكونوا بحاجة لكل هذه التصنيفات والتقسيمات لفهم دينهم، فالرسول بين أيديهم، وبوسعهم سؤاله عن أي مسألة، وتلقي الإجابة مباشرة من منبع الدين الأصلي.. وكانت البيئة الثقافية والاجتماعية في ذلك الوقت بسيطة، وأقرب للبداوة، ولا تعرف تلك التعقيدات التي نشأت فيما بعد، خاصة بعد توسع الدولة الإسلامية، والانفتاح على التراث اليوناني والفارسي والروماني، وثقافات الشعوب التي فتحوا بلادها.
فمنذ ذلك الوقت، أي مع نشوء الدولة الأموية، تغير شكل وبنية الدولة الإسلامية، ونظام الخلافة (والتي كانت تمثل مرحلة ما قبل الدولة، والأشبه بالنظام القبلي)، فعدا تحولها إلى نظام التوريث، بدأت الدولة تستفيد من تجارب وخبرات حضارات الفرس والرومان في بناء الدولة الجديدة، ومقتضياتها، وأشكالها، مثل صك العملة، وإنشاء الدواوين، والبريد، والجند، والشرطة، والسجون، وتشكيل الجيوش النظامية، وبناء المرافق العامة.
وفي العصر الحديث، نشأت علوم إسلامية جديدة، لم تكن معروفة سابقا، أهمها علم الاقتصاد الإسلامي.. فطوال المراحل السابقة، كان اقتصاد الدولة رعويا، في غاية البساطة (كل أموال الدولة بيد الخليفة، ويديرها شخص واحد بوظيفة أمين بيت المال)، والاقتصاد الإسلامي يقوم على فكرة التكافل الاجتماعي، وتوزيع الثروة بالعدل، واستغلال موارد الدولة، والتي كان أهمها الخراج، والفيء، والغنائم، والزكاة.
وبدءا من الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر ميلادي، سينشأ اقتصاد جديد، ومختلف كليا، وسيتطور لاحقا بسرعة مدهشة، حتى صار في غاية التعقيد والتشابك: (بورصات، أسواق مالية، بنوك، سعر فائدة، تبادل عملات، تجارة دولية، جمارك، رسوم، تضخم، انكماش، غسيل أموال، موازنة عامة، تأمين، أسهم، أوراق مالية، نمو اقتصادي.. إلخ) وتلك المصطلحات والتي تشكل لب وجوهر الاقتصاد الحديث، لم تكن معروفة ولا متداولة في تلك الأزمان.. فلم ترد فيها آية كريمة، ولا حديث نبوي، وحتى الفقهاء الأولون لم يعرفوها، وبالتالي كل من كتب عن الاقتصاد الإسلامي الحديث إنما اجتهد من تلقاء نفسه، اعتمادا على مبادئ عامة، وعلى فهمه وتأويله الخاص لأصول الفقه.. وهنا لا أناقش مدى دقة وصوابية هذا العلم، إنما للتأكيد على أنه علم مستحدث، تم استنباطه على يد مجتهدين من لحم ودم، ولا يكتسب صفة القداسة.
وبموازاة تطور علم الاقتصاد، تطور مفهوم الدولة نفسه، وأساليب إدارتها وأنظمة حكمها، بشكل يفترق كليا عن مفهوم الدولة السابق (أي في مرحلة ما قبل الحداثة).. وأيضا لا أجادل هنا في مدى صوابية دولة الخلافة بالمفهوم العصري، وحسب المعطيات الجديدة، بل أردت الإشارة إلى أن هذا النوع من العلم نشأ وتطور على أيدي مجتهدين من لحم ودم، ولا يكتسب صفة القداسة.
هل الإسلام نصوص ثابتة معلقة في فضاء مثالي؟ أم هو دين ديناميكي مرن يتطور مع الأزمان؟ هل هو تجربة المسلمين الأوائل فقط؟ وهل يمكن استنساخها حرفيا في كل زمان ومكان؟ وهل هنالك نموذج واحد وحيد للإسلام؟
موضوع للنقاش في المقال القادم..