الانتخابات التركية... «سياسية» بامتياز رغم «محليّتها»..عريب الرنتاوي

الخميس 04 أبريل 2019 01:42 م / بتوقيت القدس +2GMT
الانتخابات التركية... «سياسية» بامتياز رغم «محليّتها»..عريب الرنتاوي



لا شيء يحدث في تركيا من دون أن يثير انقساماً وتبايناً في الموقف والتقدير، حتى حين يتعلق الأمر بحدث محلي مغرق في محليته، كالانتخابات البلدية الأخيرة على سبيل المثال، تحدث مثل هذه الانقسامات وتتسع "فجوات المواقف"، ليس في الداخل التركي فحسب، بل وعلى المستوى الإقليمي والدولي كذلك... وأحسب أن الأمر عائد لسببين اثنين:
الأول يعود لمكانة تركيا المتزايدة في الإقليم، فهي حاضرة بقوة في معظم أزماته، وكل تطور "داخلي" في تركيا، سيكون له أثر على سيرورة هذه الأزمات واتجاهات تطورها... وهي تتموضع في المساحة "الرمادية" بين كل من: موسكو وواشنطن، طهران وتل أبيب، إيران والسعودية. لا أذكر أن انتخابات محلية حظيت بكل هذا الاهتمام واستدعت كل هذه التعليقات وبرقيات التهنئة والتبريك، كما حصل في الانتخابات التركية الأخيرة.
والثاني ينبع من الرقابة اللصيقة التي تقوم بها دول وكيانات وحركات للتجربة التركية الخاصة، وما تشهده البلاد من منازعات بين تيارين رئيسين: قومي – محافظ (ذي مرجعية إسلامية) وعلماني مدني، شكّل ويشكّل امتداداً للكمالية. الإسلاميون والعلمانيون العرب، على حد سواء، يراقبون التجربة التركية بكثير من الاهتمام، ورهاناتهم مختلفة حولها وعليها، لكأنّهم ينتظرون إجابات "تركية" عن أسئلة و"ثنائيات" لطالما أقلقتهم، وقسمت حركات الشوارع العربية: الإسلام والعلمانية، الإسلام والديمقراطية، وهل طريق الإسلاميين للديمقراطي ذي اتجاه واحد؟ وغيرها.
أبرز ما ميّز الانتخابات المحلية التركية أنها جاءت "سياسية" بامتياز؛ فكلا الطرفين نجح في حقن الرأي العام بجرعة سياسية زائدة، وربما كان هذا أحد أسباب الإقبال الكثيف بكل المعايير على صناديق الاقتراع (83 بالمائة). أما السبب الثاني لهذا الإقبال فأظنه يكمن في حالة الانقسام (المناصفة تقريباً) بين مؤيدي الحزب الحاكم وزعيمه الكارزمي من جهة، وخصومه من العلمانيين واليساريين والليبراليين والأقليات من جهة ثانية، لكأننا أمام معركة "كسر عظم" بين تيارين بلغ الاستقطاب بينهما مبلغه، أو لكأنّ البلاد بأسرها كانت تقف على قدم واحدة بانتظار نتائج هذه المنازلة الكبرى.
إن لم يحدث "انقلاب" على نتائج الانتخابات، وتتحوّل "الطعون" و"الاتهامات بالتزوير" إلى مدخل للانقضاض على نتائجها وتهديد نزاهتها وسلامتها، فإن تركيا تكون خاضت تجربة إضافية في مسارها الديمقراطي الذي تعرّض لاهتزازات عديدة في السنوات الأخيرة، دفعت بالاتحاد الأوروبي للتعبير عن "عدم ثقته" بالبيئة التي تجري في سياقها الانتخابات، واستتباعاً، للشك والتشكيك في نزاهتها.
وبصرف النظر عن الكيفية التي سينتهي بها الجدل والصراع حول نتائج انتخابات المدن الكبرى (إسطنبول وأنقرة) على وجه الخصوص، فإن نتائج الانتخابات، تقول بالحرف الواحد: إن أردوغان وحزبه الحاكم منذ قرابة العقدين، ما زالا يحتلان مكانة الصدارة لدى الرأي العام التركي (ما يقرب من 52 بالمائة أعطوه وحليفه في الحركة القومية تفويضاً جديداً، للعدالة والتنمية وحده ما يزيد على 44 بالمائة من أصوات الأتراك)، وهذه حقيقة يجب أن يدركها "المتطيّرون" الذي غلّبوا "تفكيرهم الرغائبي" على قواعد "التحليل المنطقي والملموس المستند إلى الحقائق والأرقام.
لكن تفويض الأتراك لزعيمهم وحزبهم الحاكم، جاء منقوصاً هذه المرة، وربما نقول "مشروطاً" لكأنّه "إنذار أخير" للحزب الذي سيحتفي بالذكرى المئوية لقيام الجمهورية في العام 2023. إسطنبول والمدن الكبرى، وبصرف النظر عن مآلات الطعون، قالت شيئاً مغايراً هذه المرة، ولم تمنح "العدالة" شيكاً على بياض. وفي ظني إن هذا التطور "مفيد" لتركيا، مثلما التغيير بالوسائل السلمية الديمقراطية مفيد لغايات تعزيز التجربة وتوطينها وتوطيدها.
وما لم يقرأ الحزب الحاكم بدقة مغزى ودلالات النتائج الأخيرة، فليس هناك من ضمانة على الإطلاق بأن "موسم الانتصارات الانتخابية الكبيرة" لن ينتهي، ومن حسن حظ أردوغان وحزبه، أن تركيا لن تشهد انتخابات عامة في السنوات الأربع أو الخمس القادمة، وهي فرصة كافية لتصويب المسار، أو مواجهة خطر الانهيار.
وكان لافتاً جداً، أن حزب الشعوب الديمقراطية، المحسوب على أكراد تركيا، قد مني بخسارة جسيمة في الانتخابات، لصالح حزب الرئيس، رغم حالة الاشتباك القصوى بين أنقرة وأكراد سورية، وتحوّل مناطق واسعة من جنوب شرقي الأناضول إلى ساحة مواجهة مع حزب العمال الكردستاني. مثل هذا التطور، قد يفهم على أنه "ضوء أخضر" لمواصلة السياسة ذاتها، في الداخل التركي أو في الشمال الشرقي لسورية. هنا، علينا أن نقرأ بدقة ما الذي عناه الرئيس أردوغان عندما خاطب مهرجاناً انتخابياً بالقول: إن العمل على "حلّ الأزمة السورية" سيحدث بعد الانتخابات مباشرة ... فلننتظر لنرَ.