"حِراك "بدنا نعيش": بين الحق والحقيقة والخطأ والخطيئة!! ..د.احمد يوسف

الخميس 21 مارس 2019 11:05 ص / بتوقيت القدس +2GMT
"حِراك "بدنا نعيش": بين الحق والحقيقة والخطأ والخطيئة!! ..د.احمد يوسف



ما وقع من تعامل أمني مع حِراك "بدنا نعيش" كان مؤسفاً بكل معنى الكلمة، ويبعث على الحزن والأسى؛ لأن المشاهد التي خرجت لا يمكن أن ترسم صورة إيجابية عن النضال الفلسطيني، وتمنح المتربصين – للأسف - الذرائع لتشويه الواقع والتشهير به، فما بين حق الكثيرين في التظاهر لتردي الأوضاع المعيشية، وخطأ السياسيين في عدم قراءة منسوب الغليان في مرجل الفقر والحاجة، تكمن حقيقة الغضب الآخذ في التراكم منذ يونيو 2007، حيث وقعت الأحداث المأساوية وتشظى الوطن، وكان الانقسام الذي لم نر خيراً بعده على شعبنا وقضيتنا الوطنية، حيث تباعدت المواقف بين حركتي فتح وحماس، وتعاظمت الخلافات مع حالة العجز والفشل في رأب الصدع  وتحقيق المصالحة، كما تزايدت أشكال الحقد والكراهية والتحريض وارتكاب الخطايا بتسارع  لا يمكن فهمه، إلا في سياق التربية الحزبية الخاطئة، والتي تعمل على إلباس الآخر عباءة الشيطان، واتهامه بالعمل لحساب هذه الجهة أو تلك!!

لا شك أن ما وقع يستدعي من الجميع إعادة قراءة الأحداث ليس من خلال رواية حركة حماس أو إعلام السلطة في رام الله، ولكن مما كتبته أقلام الكثيرين ممن سبق لهم الحديث والتحذير من الانفجار القادم، والذي كانت إرهاصات وقوعه لا تخطئها عين الناقد البصير.

قطاع غزة: بين مطرقة الفقر وسندان التحريض

يعاني قطاع غزة أوضاعًا معيشية واقتصادية صعبة متفاقمة منذ ثلاث عشرة سنة نتيجة الحصار والانقسام الفلسطيني، وبحسب الدراسة التي أعدها مركز مسارات بعنوان (قطاع غزة: الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.. تدهور خطير)، ونشرت في إبريل 2018، وجاء فيها أن العام 2017 يُعدّ هو الأكثر سوءاً، إذ ازدادت نسبة الفقر بين سكان القطاع ووصلت إلى 65%، في حين وصلت نسبة البطالة إلى 47%، وهي الأعلى منذ سنوات، مما أثَّر على القدرة الشرائية للمستهلك وتراجعها، وبالتالي نقص السيولة النقدية في السوق، كما تفاقمت الأوضاع بعد فرض الحكومة الفلسطينية إجراءات جديدة على القطاع في إبريل 2017، طالت كافة الشرائح والقطاعات.. وخلصت الدراسة إلى أن هذا التراجع يعود إلى جملة من العوامل والأسباب المتراكمة، أبرزها الحصار، والعدوان الإسرائيلي (2009-2008، 2012، 2014)، وبطء إعادة الإعمار، ومن ثم إغراق مصر للأنفاق وإغلاقها، التي كانت تربط القطاع بمصر، وتفاقم الانقسام، وفرض السلطة الفلسطينية والحكومة في رام الله، إجراءات مسَّت الحياة والاقتصاد في قطاع غزة، ردًا على تشكيل حركة حماس للجنة الإدارية، والتي كانت مهمتها إدارة شؤون أساسية للحياة في القطاع في مارس 2017، وهي إجراءات استمرت بتواصل الخلاف بين الطرفين، رغم حلِّ اللجنة في سبتمبر 2017، واتفاق المصالحة في أكتوبر 2017.. ومن الملاحظ - كما أوردت الدراسة - أن الأنشطة الاقتصادية في قطاع غزة ومنذ مطلع العام 2018، قد تراجعت تراجعاً كان هو الأخطر من نوعه، حيث تكبد القطاع الخاص العديد من الخسائر، مما جعل كافة مؤسسات القطاع الخاص في القطاع تعلن الإضراب الشامل ليوم واحد في نهاية يناير 2018.

وأجملت الدراسة القول بأن هناك تدهوراً خطيراً للأوضاع المعيشية والاقتصادية في قطاع غزة للعامين 2017 و2018، وذلك لعوامل متعددة، منها: تعثر تطبيق بنود المصالحة، واستمرار الحصار الإسرائيلي، وقرارات الحكومة الأميركية، وإجراءات حكومة الوفاق، وغيرها، في الوقت الذي كان فيه أهل غزة يأملون بانفراجات على كافة الأصعدة، وتحسن الوضع المعيشي والاقتصادي في ظل تحقيق المصالحة ورفع الحصار، ولكن هذا لم يحدث، بل أخذت الأزمة تتعمق أكثر في ظل تزايد الإجراءات "العقابية" من قبل السلطة الفلسطينية. وحذرت الدراسة من أن استمرار حالة الشد والجذب بين طرفي الانقسام سوف تؤدي بالقطاع إلى مزيد من تدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية، في ظل تراجع الدعم الدولي، وأزمة الكهرباء، والحصار الإسرائيلي، والفقر، وانعدام الأمن الغذائي، وأزمة الأونروا المالية.

ولعل الاستطلاع الذي أجراه "المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية" في الضفة الغربية وقطاع غزة، بتاريخ 20 مارس 2019، قد وضع بعضاً من النقاط على الحروف فيما يتعلق بالمعاناة التي يتعرض لها قطاع غزة، حيث كشفت نتائج الاستطلاع أن 62% من الفلسطينيين يُحمِّلون سلطة رام الله وإسرائيل مسؤولية أزمات القطاع، وقد طالب 82% منهم السلطة الفلسطينية برفع الإجراءات العقابية المتخذة ضد قطاع غزة، مثل: خصومات الرواتب أو تقليل ساعات الكهرباء.

لا شك بأن تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بعد مضاعفة الإجراءات العقابية التي قامت بها السلطة تجاه قطاع غزة، أسهمت في تغذية حالة الاحتقان والغليان في الشارع الفلسطيني مما أفاض كأس الصبر والتحمل بما شاهدناه من حراك "بدنا نعيش"، والذي لن يكون الأخير إذا لم تنفرج الأمور، ويتحقق الحد الأدنى من العيش والحياة الحرة الكريمة.  

الاصطفاف بين فُسطاطين ليس حلاً !!

علينا أن ندرك نحن الفلسطينيين بأن تبني وجهات نظر طرفي الأزمة بما فيها من تناقضات وخلاف ليست هي الحل، وعلينا أن نُغلِّب المصالح الوطنية على الحزبية لنحمي مستقبل مشروعنا الوطني، حيث إن المنتصر الوحيد من وراء هذا الصراع الدائر بين فتح وحماس لا كاسب فيه إلا دولة الاحتلال المارقة، والفوز لأيٍّ منهما لن يتحقق في مثل هذه الاشتباكات الجانبية بينهما؛ لأن عواقبها هو خسارة الحاضنة الشعبية، التي تعطي للقضية مكانتها الإقليمية والدولية.

لقد سبق لي تقديم الكثير من الرأي والمشورة لإخواننا في الحركة الوطنية؛ سواء في قيادة حركة فتح أو حماس، ولكن يبدو أن رهان كل منهما ما زال قائماً على سياسة تغييب الآخر وليس الشراكة الحقيقية معه، وفق ما تسمح به مساحة التوافق الوطني بينهما، ولهذا فإن واقع التدافع الإعلامي لأصحاب الأجندات ما زال يغذي أجواء الكراهية والاقصاء، وهذا المخزون السلبي يسهل تحريكه لافتعال مواجهات يختلط فيها الحق بالباطل والحقيقة بالخطيئة، لتصبح الرواية الفلسطينية لدى المتابع العربي أو الغربي لا تستحق المشاهدة والتعاطف، وليست جديرة باعتماد سلوكيات النُصرة والدعم والتأييد لها.

على المستوى الشخصي؛ حاولت أن أكون متوازناً وألا تأخذني حميَّة الجاهلية الأولى، ولا عقلية "ما أنا إلا من غُزية"، ولا التعصب للغة القبيلة، فكان اصطفافي للوطن وللحاضنة الشعبية، فأجملت موقفي في مجموعة من التغريدات التي أطلقتها على وسائل التواصل الاجتماعي، مؤملاً أن تصل بالسرعة المطلوبة إلى آذان أولي الأمر كل داخل فسطاطه وبين حاشيته، بهدف التحرك قبل أن تخرج الحالة عن السيطرة، ويحدث ما لا يحمد عقباه!! وأعيد هنا التذكير بها؛ لأن الفتنة ما تزال جمرة تحت الرماد، وقد تطل برأسها وتعاود الظهور من جديد، حيث إن أسباب التوتر ومعطيات واقع التحريض والتآمر على قطاع غزة لم تعالج بعد. ولذا، فإن قناعتي وما عليه الرأي والرؤية تعكسها التغريدات التالية:

- مع الحراك وضد العنف والتخريب.

- الحراك لا يعني أن الشارع ضد حماس؛ لأنها جزء منه.. الحراك رسالة لثلاث جهات: الاحتلال والمنطقة والمجتمع الدولي، مفادها؛ نريد أن نعيش.

- علينا أن نقر ونعترف بأن لدينا بلديات فاشلة، ورؤساء مُعيَّنين لا يهمهم غير جباية شعب مذبوح!! دعونا ننتخب من يمثلنا في هذه المؤسسات الخدمية.

 -نعم؛ هناك من يُحرض ويعمل على حرف بوصلة الحراك، وهؤلاء يتوجب رصدهم ومحاكمتهم، ولكن - يا قوم - أليس من حق الجائع أن يصرخ؟!

- حِراكات الشارع ليست دائماً ثورة، ولكنها رسائل قوية لتنبيه المسئولين بأن هناك ممارسات وأخطاء يجب أن تصحح.

- إن من لا يقرأ دموع الجوع والأسى على الوجوه، فليس من حقه أن يتقدم ويطالب الجموع أن تلحق به.. إذا توزَّع الفقر تصبَّر الناس!!

- علينا أن ندرك بأن لدينا سلطة فاسدة ومستبدة، وتشجيعها للحراك ليس من باب الحرص والوطنية، بل لتغطية فشلها وتبعيتها للاحتلال.

- في القطاعات الخدماتيِّة كالبلديات؛ لا نريد مبعوثاً للعناية الإلهية، بل شخصاً مؤهلاً ومنتخباً بالإرادة الشعبية.

- لكي تصل رسالة الحراك الشعبي إلى المسؤولين وأصحاب القرار، يتوجب أن يفرز قيادة تتكلم باسمه، وبمطالب محددة يمكن فتح باب الحوار حولها.

- لا تُنصتوا إلى نداءات التحريض التي يُروِّج لها من تاجروا بالوطن، وجعلوا الشعب والقضية تحت بساطير الاحتلال. خذوا حذركم!!

- الحذر الحذر.. وخليِّ عينك ع الوطن، فالحراك لا يعني جدلية صراعية بمنطق الجاهلية: يا لفتح.. يا لحماس، فالشعب ليس هو الأوس والخزرج!

- لمن ذبحوا شعبنا بالإجراءات العقابية، وتواطأوا مع الاحتلال في حصار قطاع غزة، ليس لهم اليوم صدقيِّة الظهور في ثيابِ الواعظينا!!

- الكثير من التصريحات التحريضية التي تطلقها شخصيات قيادية في رام الله لتأجيج الحراك الشعبي تأتي في سياقات غير وطنية وغير أخلاقية.

- هناك أخطاء وقعت في التعامل مع الحراك، وعلى وزارة الداخلية أن تعتذر ولا تكابر، فالحاضنة الشعبية هي رصيدنا الوطني الذي نعتز به ونفخر.

- على القيادة السياسية لحماس أن تستدرك ما وقع من أخطاء، وأن تلتقي على مائدة وطنية للحوار، قبل أن تتصدع جدران المعبد ونخسر كل شيء.

- السلطة في رام الله مأزومة، ومتورطة في التحريض والتآمر على غزة، ولكنَّ خلاصها ليس في حراك بدنا نعيش، بل في المصالحة وانهاء الانقسام.

- من أبجديات السلم الأهلي أن تُترك مساحة للحريات، فالحراك الشعبي هو في النهاية صرخة غضب، بهدف طرق أبواب المسؤولين ولفت أنظارهم.

- هناك مجموعة من المشبوهين والفاسدين في أجهزة السلطة تحاول حرف بوصلة الحراك باتجاه التخريب والفوضى، فعلى الجميع أخذ الحيطة والحذر.

- أنصح إخواني في حركة حماس بلقاء قيادات الفصائل والخروج بمؤتمر صحفي وقرارات بتعليق الضرائب ووقف تغول البلديات.

- اعتادت حركتنا العتيدة تجاهل نصائح البعض؛ كونهم من خصوم السياسة، وهذه مسألة يمكن تفهمها، ولذلك على ابنائها المخلصين أن ينصحوا لها.

- الحراك الشعبي وصلت رسالته، وعليه أن يشكل قيادة تمثله، وأن تتقدم بمطالبها إلى الجهات المسؤولة في حركة حماس. وبعد ذلك لكل حادثٍ حديث.

- الإعلاميون أصحاب رسالة وطنية، والتعدي عليهم إهانة للوطن.. لا تُغضبوهم حتى وإن جار البعض منهم، فهم دررٌ ولآلئ لبندقية شعبنا.

- التحريض الإعلامي لتلفزيون فلسطين لا يخدم سياقنا الوطني، وهو للأسف يكرِّس الاصطفاف الحزبي، ويؤجج لفتنة لعن الله موقظها.

- أه يا بلدي.. غاب الطُهر والعقل!! وساد الكره والبُغض!! لماذا كل هذا الجُرم والحقد؟

-عندما يقع الخطأ، يخرج صاحب الأمر والولاية بالقول معتذراً: اللهم إني أبرأُ إليك مما فعل خالد!! هذا هو ديننا.

- بغض النظر عمَّا قال.. فالاعتداء على د. عاطف أبو سيف خطيئة لا يمكن الدفاع عنها. اللهم إني أبرأُ إليك من هذا العمل، وممن دعا إليه.

كانت هذه التغريدات تمثل فلسفتي ونظرتي للأمور وفي سياق ما يمكن التصريح به، وإن كانت هناك مواقف أشد غضباً أخذت طريقها إلى العديد ممن هم من أهل الرأي والحكمة.

إن الكثير من الشخصيات الإسلامية في الضفة الغربية أظهرت كذلك امتعاضها مما جرى من ممارسات في التعامل مع هذا الحِراك، وقد أوصلت رسائلها للمسؤولين في قطاع غزة بأشكال مختلفة.

الحِراك بين المشروعية وضرورات أخذ الحذر!!

لقد حرَّكت صرخة "بدنا نعيش" الكثير من المياه الراكدة، وخرجت تصريحات ومواقف للكثير من الشخصيات التي أظهرت تعاطفها الشديد مع هؤلاء الذين عضَّهم الجوع بنابه، ولكنها في الوقت ذاته كانت مدركة بأن هناك بين الجموع أعداداً من المدسوسين مهمتها هي التهييج والتوتير، وتغذية هذا الحراك بشعارات مغرضة وأفعال تخريبية، لإخراجه عن سلميته، ودفعه لحالة من الهيجان والعنف، بهدف استدراج الأجهزة الأمنية لارتكاب أخطاء، وهذا ما وقع فعلاً.

في الحقيقة، لم تكن حركة حماس ضد أي حراك سلمي، بل كانت كوادرها تخرج متضامنة بالآلاف معه، ولكنَّ تحريض الجهات الأمنية في رام الله لعناصرها في قطاع غزة قد استفز الحركة، وجعلها تتصرف من خلال بعض أفرادها في الشرطة والأمن بسلوكيات جلبت عليها الكثير من ردات الفعل السلبية، والاتهام بالاستقواء بغير وجه حق على حراكٍ له ما يبرره.

لقد أوضحت حركة حماس موقفها في بيان أصدرته عقب تلك الأحداث، وقد ضمنته اعتذاراً لبعض ما وقع من أخطاء، وقد جاء في البيان: "نستنكر كل أشكال الاعتداء على أي مواطن، فسيادة القانون هي التي تحكم غزة، والقضاء والنيابة يعملان بلا توقف في خدمة المواطنين ومتابعة شؤونهم". وقد جاء في البيان أيضاً: "نُعرب عن أسفنا عن أي ضرر مادي أو معنوي أصاب أحد أبناء شعبنا"؛ داعياً الأجهزة الأمنية بإعادة الحقوق المعنوية والمادية لأي طرف وقع ظلم عليه.

بلا شك هذا سلوك تشكر عليه قيادة حماس، وسيسهم في تخفيف الاحتقان مع الشارع من ناحية، ومع كل من انتصر لهذا الحراك من الإعلاميين والمحامين ومنظمات المجتمع المدني.

بيت القصيد؛ إنَّ ما وقع كان فتنة، ألا وإن الله وقى شرها.