إلى أي مدرسة دينية تنتمي فلسطين...مهند عبد الحميد

الثلاثاء 11 ديسمبر 2018 04:09 م / بتوقيت القدس +2GMT
إلى أي مدرسة دينية تنتمي فلسطين...مهند عبد الحميد



2018-12-11

منذ تصاعد موجة الإرهاب الديني المترافق مع صعود الإسلام السياسي وسيطرته على المجتمعات العربية، والمترافق مع سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على أجزاء كبيرة من أراضي العراق وسورية وليبيا، بدأت مواجهة فكرية بين المدارس الدينية المتنورة من جهة والمدرسة المتزمتة التي أنتجت الإرهاب من جهة أخرى. 
وانفض إلى حد كبير التحالف بين العديد من الدول العربية والإسلام السياسي الذي ترتب عليه تقاسم السيطرة على المجتمع طوال ثلاثة عقود. 
حيث أطلق نوع من السيطرة الإسلامية المتزمتة على المجتمع عبر الاستفراد بالخطاب الديني وبمناهج التعليم التي أخضعت للتديين، مقابل عدم المس بنظام الحكم وبمؤسسات الجيش والأمن.
بدأت المواجهة الفكرية بين التزمت والتنوير تؤتي أكلها تدريجيا وببطء لمصلحة التنوير في أكثر من بلد عربي. 
فقد بدأ الجدار الذي فرضه التزمت يتخلخل، بدءا بإزالة القدسية عن كتب التراث باعتبارها عملا بشريا ينتمي إلى الماضي واجتهادا في تفسير النصوص فيه الكثير من الأخطاء والقليل من الصحة، وأن تفسير الفقهاء للنص القرآني يجوز نقده وعدم الالتزام به والاستعاضة بتفسير وقراءة تتلاءم مع التطور والعصر والحداثة. 
وترتب على ذلك إعادة الاعتبار للتنويريين القدامى وتجديد أفكارهم أو البناء فوقها، وتفكيك الفكر المتزمت ونقد رموزه من أمثال ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب والمودودي وسيد قطب وغيرهم من غلاة المفكرين التكفيريين. 
وكانت النتيجة الأهم هي حظر حكومات ودول عربية للكتب التي تدعو إلى التطرف والتزمت والتكفير ومنع تداولها في المكتبات الرسمية وفي المدارس، وشطب بعض الدروس في الكتب المدرسية التي تدعو إلى كراهية الآخر والمعادية للأديان والمعتقدات الأخرى.
غير أن التطور الأهم هو البدء بمراجعة صحيح بخاري وصحيح مسلم وغيرهما من المراجع  بهدف تنقية التراث من كل ما علق به من أخطاء، والأفكار المتطرفة التي تتناقض مع الأخلاق ومع العدالة الاجتماعية ومع العقل والمنطق. 
لقد سجلت مصر وبعض الدول العربية الأخرى، تقدما على هذا الصعيد، وذلك عندما نجحت في كبح أو الحد من الابتزاز والإرهاب الفكري الذي نال من كبار المفكرين طوال العقود الثلاثة الماضية. 
لقد عاد إسلام بحيري ومحمد شحرور وإبراهيم عيسى وسيد القمني إضافة إلى نخبة من المفكرين التونسيين والمغربيين، هؤلاء وغيرهم عادوا إلى الحضور بسجالاتهم وبتفكيكهم للخطاب التكفيري المتزمت، وبتقديم دراسات إسلامية حديثة. 
وفي تطور مهم أصبحت مؤسسة الأزهر، ومؤسسة الإفتاء السعودية مطالبتين بإعادة دراسة الأحاديث النبوية واستخراج كل ما هو مشكوك في صحته. 
ونجحت المواجهة الفكرية في تونس في إنجاز قضيتين كبيرتين: الأولى حظر التكفير والتحريم في الدستور التونسي الجديد، بمعنى حظر سلاح الدمار الشامل الذي طالما استخدمه الإسلام السياسي لإسكات مجادليه وابتزازهم وقطع كل جسور البحث عن الحقيقة التي يدعي امتلاكها واحتكارها وحده حصريا. 
إن نزع هذا السلاح يساوي إزالة الإرهاب الفكري الذي شكل على الدوام مقدمة للإرهاب الجسدي والقتل والعقوبات المادية والمعنوية التي مورست بحق المختلفين. 
القضية الثانية التي أنجزت من الناحية العملية هي مساواة النساء في الإرث والملكية كنتيجة للقراءة المحدثة للنص والذي ينسجم مع العدالة الاجتماعية ومكارم الأخلاق وهو جوهر الدين بحسب المتنورين.
كما نرى، مدرسة التنوير في تونس تحرز تقدما نظريا وعمليا، ومدرسة التنوير في مصر تحرز تقدما نظريا، وبمستوى أقل هناك تقدم ما في السعودية.  
مقابل ذلك لا يتقدم التنوير في فلسطين لسوء الحظ، ولا يجافي المرء الحقيقة إذا ما قال لا يوجد تنوير في فلسطين.  
ومن مظاهر ذلك الزعم الخطاب الديني المسموع في المساجد وفي وسائل الإعلام وفي الكتب المدرسية المناهج القديمة والجديدة، ينتمي للمدرسة الدينية المتزمتة وبخاصة الموقف من النساء ومن الأديان الأخرى. 
حيث يوجد تحريض عدائي يختلف من مدينة لأخرى ومن مسجد لآخر، وقد جاء قول قاضي القضاة محمود الهباش في الإذاعة الرسمية: إن الضرب غير المؤذي للمرأة يستخدم كوسيلة للتربية، ليلخص الانتماء للمدرسة المتزمتة. ويكشف الانعزال عن مساعي التنوير في بلدان عربية شقيقة. 
كلام قاضي القضاة لم يكن زلة لسان، فهو يعبر عن استبداد السلطة الذكورية التي تتعامل بدونية مع النساء وتتوعد بإخضاعهن ليس عبر منظومة القوانين وحسب، وليس عبر الثقافة الذكورية وحسب، بل وباستخدام الضرب سواء كان مؤذيا أو غير مؤذٍ. 
فالضرب كأسلوب تربية مناقض تماما للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولاتفاقية إزالة كل أشكال التمييز ضد النساء» سيداو» اللذين وقعت عليهما فلسطين متفاخرة بذلك، ومتناقض مع حقوق المواطنة، ومع الشراكة القائمة على المساواة. 
كثيرون من رجال الفكر الديني لهم قراءة دينية للنص متعاكسة مع قراءة قاضي القضاة. لماذا لا نفكر بالانتماء لتلك القراءة المتنورة المنسجمة مع أخلاقيات العلاقة بين النساء والرجال. 
مشاركة الرجل والمرأة في القوامة، واعتماد معايير مستمدة من تطور أدوار النوع الاجتماعي.  
الرد على قاضي القضاة كان معاكساً له في الاتجاه ومساوياً في المقدار. ما أعنيه هنا، أن الرد لم يتناول التحول الرجعي في المجتمع والمؤسسة الفلسطينية، ولم يتوقف عند همود وتذيل المستوى الثقافي الذي كان يلعب دورا تنويريا في مراحل سابقة. 
ولم يطرح سؤالا من نوع لماذا تنقطع فلسطين عن مسار الإصلاح الديني وحركة التنوير الجديدة في العالم العربي، بمثل ما انقطعت عن مسار الإصلاح السياسي الذي حاولت القيام به الثورات والانتفاضات الشعبية العربية «المغدورة». 
إن تسويغ ضرب النساء من أعلى مؤسسة قضائية في الوقت الذي تزداد فيه ظاهرة قتلهن وتعنيفهن داخل المجتمع بمختلف الأشكال يعكس حالة التردي التي نعيشها، كما أن ردود الفعل الباهتة تبعث على الحزن. 
كان ينبغي إقالة قاضي القضاة سواء بمبادرة من المستوى السياسي أو من مجلس القضاء الذي يترأسه.. وإعادة النظر في دور المؤسسة الدينية وتأثيراتها داخل المجتمع الفلسطيني.