احتفالية ياسر عرفات..وانتصر أبو عمار في ذكراه..د.احمد يوسف

الثلاثاء 27 نوفمبر 2018 11:31 ص / بتوقيت القدس +2GMT
احتفالية ياسر عرفات..وانتصر أبو عمار في ذكراه..د.احمد يوسف



د. أحمد يوسف

لم أكن راغباً في تعجل الكتابة عن احتفالية الشهيد ياسر عرفات في الذكرى الـ14 لرحيله، وآثرت متابعة ما ستكتبه النخب والفصائل عنها؛ لأن الحدث من ناحية قراءة مشهد الحشد الجماهيري له الكثير من الدلالات، كما أن المشاركة الواسعة "للكل الفلسطيني" بأطيافه وأيديولوجياته المختلفة كانت هي الأخرى توجه رسالة قوية في أكثر من اتجاه.

وفعلاً؛ كانت القراء لمجمل ما كتبته أقلام النخبة - وخاصة الإسلامية منها - إيجابية ومتفائلة، وهذا ما كان يهمني لرصد اتجاهات بوصلتنا القادمة، حيث إن المؤشرات تقول بقوة وصراحة: إن الطريق غدت ممهدة لصياغة رؤية وطنية جامعة.

نعم؛ إن من دعا لإحياء المناسبة هو التيار الإصلاحي الذي يقوده النائب محمد دحلان، والذي اتهمه رئيس السلطة الفلسطينية بأنه "متجنح" واعتبرته حركة فتح وجماعته بأنهم "شرذمة قليليون"!! وشنت حرباً شعواء على كل من يقترب منه أو يتعامل معه، والرجل كان يبادل كل هذه القطيعة بما يفهم أنها "سحابة صيف"، وأن أصالة انتسابه لحركة فتح وقناعته بنهج القائد ياسر عرفات هي من يجعله متمسكاً بالانتساب لفتح الفكرة والمسيرة النضالية، وأنه سوف يستمر في انتمائه حتى وإن جار عليه بعض من شاركوه الدرب من إخوانه في حركة فتح واتهموه بكل ما يرضي مزاجية الرئيس، والذي بدا أن خلافه الحقيقي مع دحلان هو شخصي وليس له علاقة بالوطن أو المشروع الوطني.

ولعل هذا الإصرار لدى دحلان للتمسك بحركة فتح، يذكرني بما قاله المتنبي:

إذا ترحَّلْتَ عن قوم وقد قدروا ..... ألا تفارقَهمْ فالراحلون همُوْ

أي؛ "أنتم الخاسرون برحيلي وليس أنا"، وهذا ما أثبتته الأيام.

إن الهجمة التي تعرض لها دحلان على أكثر من صعيد كانت قاسية، وهو بعناده وجرأته كابن مخيم تحملها، إلا أنه وبذكاء السياسي حافظ على توازنه واستمر يبني قناعات حول نهجه في الإصلاح والتغيير، ويكسب بهدوء وصبر أعداداً كبيرة من الشباب اليافع، ويجتهد في تهذيب من يأتي به تياره من الشارع، وكان يعمل على توطيد علاقاته مع "الكل الفلسطيني" دون التفاتة لمن يعادونه داخل حركة فتح، والتي تراجعت فعالياتها وقدراتها التنظيمية لصالح التيار الإصلاحي، وخاصة في قطاع غزة، مما جعل البعض يطلق عليها حركة فتح (تيار الرئيس)!!

من هنا، بدأ التقارب مع هذا التيار، وانتفى الحرج من الاقتراب منه؛ لأنه غدا حالة وطنية لا تخطئها العين، وإن كانت حشود هذا التيار تفتقد إلى الثقافة السياسية والحركية والأدبيات التنظيمة التي تؤطرها، ولكن هذه فيما يبدو هي الخطوة الثانية في تطلعات قيادة هذا التيار، حيث إن التركيز في البدايات أعطى الأولوية للتوسع الأفقي لإثبات الوجود، أما ما هو منتظر في المرحلة القادمة فهو التوعية النضالية والتحرك رأسياً لتأصيل رؤية التيار وفكره.

لا شك أن جغرافيا هذا التيار وحضوره ورؤيته السياسية ستتحدد في الشهور والسنوات القادمة، وفقاً لبعض المعطيات على الساحة الفلسطينية، والمتعلقة بمدى أهليِّة الرئيس (أبو مازن) على البقاء ممسكاً بزمام السلطة أو رحيله المفاجئ؛ لاعتبارات العُمر، والتي لا يمكنه أن يتجاهلها ويعاند فيها القدر.

هذه الاحتفالية بذكرى رحيل ياسر عرفات (رحمه الله) لم تكن هي الأولى لإظهار قوة التيار، وإن قال البعض في المرة الأولى - وفي احتفالية العام الماضي بساحة الكتيبة الخضراء -  إن حركة حماس هي من عاظم فرص الظهور لمشهد تلك الجموع، نكاية بالسلطة في رام الله، والتي ناصبت حكومتها قطاع غزة العداء، وشاركت في تشديد الحصار عليه لإنهاك سلطة حماس وإسقاطها!! ولكن مع هذا المشهد الجديد في ساحة السرايا جاء الرد على مثل تلك الادعاءات، حيث تزايدت حشود الجماهير وتنوعت أكثر وأكثر.

علينا أن نقر ونعترف بأن سياسيات الرئيس أبو مازن الظالمة تجاه الحالة السياسية والمعيشية في قطاع غزة، وسعيه لمعاقبة القطاع بقطع أرزاق الآلاف من أبنائه، بدعوى معاقبة حركة حماس، دونما تدبر – للأسف - لمدى إضرار تلك السياسات وانعكاساتها السلبية على الحالة الوطنية وقدرات شعبنا على الثبات والصمود في وجه الاحتلال.. لا شكَّ بأن كل ذلك كرَّس القناعة لدى الجميع بأن الرئيس والكثير من أصحاب المصالح وممن أعمتهم الأحقاد من بطانته لا ترجو الخير لأهل غزة، ولا تلقي بالاً لمحضن الثورة والنضال الفلسطيني. في المقابل، وهنا الذكاء والفطنة السياسية، أطلَّ علينا النائب دحلان وهو يمد يده لأهل قطاع غزة، ويتحدث بلغة وطنية وإنسانية وبمهارة الدبلوماسيين مع فصائل "الكل الفلسطيني"، طالباً الشراكة في الجهود الوطنية للمساهمة في إطلاق حملة إغاثية لانقاذ القطاع، وهذا ما كان، حيث أخذت أموال المساعدات التي قدَّمها عبر "لجنة التكافل" طريقها لإنعاش حالة الاحتضار التي كان القطاع يمر بها.

لم تأت حشود الاحتفالية من فراغ، بل سبقتها تلك المواقف للنائب دحلان والتيار الفتحاوي الذي يمثله، وخاصة في البعدين الإغاثي والسياسي، حيث كان الدعم الذي حافظ – برغم تواضعه - على شريان الحياة متدفقاُ، وكذلك التصريحات والكلمات التي كانت تصب في سياق تعزيز الوحدة الوطنية، وبذل الجهود مع الشقيقة مصر لاستمرار مساعيها في اتجاه الانفتاح مع قطاع غزة، وبناء المزيد من جسور الثقة مع حركة حماس.

إن الاحتفالية في مشهدها المهيب، وفي حجم المشاركة الفصائلية فيها، ومستوى الانضباط والتنظيم العالي، والتغطية الإعلامية، كلها تشي بأن روح ياسر عرفات ما تزال حيَّة تعيش بيننا، وأنها يمكن أن تشكل حاضنة وطنية جامعة وقاسماً مشتركاً لمشروعنا الوطني.

في الحقيقة، كانت الاحتفالية مناسبة للجميع ليدرك أن صفحات الماضي يمكن أن نطويها ونقفز على جراحاتها، وأن السياسة التي فرقتنا يوماً ما، ودفعنا أكلافاً عالية في مذابح أجنداتها، يمكنها أن تجمعنا مرة أخرى على برنامج نضالي ورؤية استراتيجية واحدة.

لقد لفت نظري في الاحتفالية الكلمات التي صيغت بلغةٍ "تجمع ولا تفرق"، وتعبر بوضوح أن الوطن ليس أنا أو أنت بل أنا وأنت، فالمبادرة التي طرحها الأخ خالد البطش؛ باعتباره ممثلاً عن "الكل الفلسطيني"، كانت تمثل طريقاً للخلاص من محنتنا الوطنية، وكذلك  النداء الذي أطلقه النائب دحلان للرئيس (أبو مازن) بالتوجه لقطاع غزة والعمل على رأب الصدع، والذي عبر – حقيقة - عن رغبة للتصالح بنبرة ونكهة إيجابية، تعكس توجهات الجميع بالتعالي على أخطاء الماضي وخطاياه، والتي نأمل أن يتلقفها إخواننا في رام الله بروح طيبة تليق بمكانة القائد والزعيم والشهيد ياسر عرفات.

اتمنى أن تنفرج أحوالنا السياسية، وأن تكون "محطة الاحتفالية" هي وقفة للتأمل ومراجعة لرحلة المواجع والآلام، التي دفعنا جميعاً - ولأكثر من عشر سنوات - ثمناً باهظاً في سياق تناقضاتها، وخسر فيها – للأسف - الكل الفلسطيني، حيث لم يربح من تلك التصدعات السياسية ونزف المواقف والدماء إلا الاحتلال.

ياسر عرفات - أيها القائد والشهيد - لنا في ذكرى رحيلك أمل أن يجتمع الشمل، وأن تتحرك القناعات باتجاه سياق وطني تلتقي فيه وبقوة وحدة الموقف والدم والقرار.