في استراتيجية الاحتواء للوضع في غزة..حسين حجازي

السبت 17 نوفمبر 2018 09:25 م / بتوقيت القدس +2GMT



ربما أن الكلام المهم الذي يستحق التوقف عنده والتأمل في معناه وسط هذا الصخب المجنون من المزايدات والنواح داخل الطبقة السياسية في إسرائيل، هو الكلام او التبرير الذي قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي ظهر في هذه الدراما قبل أيام بوصفه العاقل الوحيد الذي اختار بحكمة تجنب ما بدا أنه مسار واضح في الانزلاق الى حرب أُخرى.
وقال نتنياهو مخاطباً الرؤوس الحامية وسكان ما يسمى غلاف غزة، انه يرى ما لا يراه هؤلاء الذين لا ينظرون الى أبعد من أقدامهم، وان ما يعرفه لا يستطيع البوح به أي المخططات السرية التي تتعلق بالمستقبل والجداول الزمنية التي تتواءم ومصالحنا الأمنية والسياسية في اتخاذ القرارات المهمة والحساسة، وأنه ليس من الحكمة ان يجرنا الآخرون الى الحرب. فهل اختزل نتنياهو بهذه الكلمات الأسباب التي تدعوه الى تجنب خيار الحرب ؟ الحرب التي يُجمع عليها معظم المحللين الإسرائيليين والفلسطينيين بانه لا جدوى منها اذا كانت لن تغير الوضع القائم.
وأظن انه في غمرة هذا الصخب فان هؤلاء المزايدين لا يطرحون السؤال الوحيد الذي يجب ان يطرحوه منذ زمن، وهو ان كان الجواب او الحل لمعالجة الأزمة مع غزة سياسياً او عسكرياً؟ أي هل الذهاب الى حرب تدميرية مع غزة هو الحل، ام ان هذا الحل يجب ان يقوم على قاعدة الإجراءات السياسية، أي بحسب الفطنة والذكاء القيادي. وهو ما كان يجب ان يقوم به نتنياهو بعد الحرب الثالثة والأخيرة التي استمرت 51 يوماً ولم تجد إسرائيل في النهاية ما يسمونه بنك الأهداف، الا قصف البيوت والأبراج السكنية، لأن الأهداف الحقيقية كما يعلم الجميع هي موجودة تحت الأرض وليس فوق الارض. ولهذا على ماذا كانوا يقومون في هذه المزايدات التي لا طائل منها سوى المنافسة الانتهازية استعدادا للانتخابات القادمة على من يمثل اليمين الشعبوي في إسرائيل.
وقد كان واضحاً ماهية الأسباب التي دفعت ليبرمان الى الاستقالة، وهو الرجل الذي ودعته الصحف الإسرائيلية وحتى المستوى العسكري في وزارة الحرب التي كان يرأسها، بنوع من السخرية والتقليل من أهمية هذه الخطوة التي اقدم عليها، باعتبار ان الهدف منها هو محاولة إنقاذ فرصته وحزبه بتجاوز نسبة الحسم في الانتخابات القادمة من خلال هذه المزاودة على نتنياهو ونفتالي بينيت، في ارتدائه ثوباً زائفاً من الصدقية او الاستقامة، اذا كان المجلس الوزاري وافق على التهدئة وهو طالب بتوجيه ضربة قوية لغزة او لحماس.
ولكن اذاً ماذا كانت حسابات نتنياهو التي أشار إليها او ألمح اليها دون ان يفصح عنها؟ والجواب هو أيضاً واضح، اذا كان الرجل لا ينظر الى إنجازاته الكبيرة والحاسمة اخيراً بل يمكن القول ميراثه السياسي، ليس في المجال العسكري حتى بالرغم من خوضه حربين مع غزة وأتبعهما بسلسلة متواصلة من جولات التصعيد في غزة وسورية على حد سواء، وانما يستطيع الفخر والمباهاة بان انجازه هو سياسي واقتصادي بامتياز. 
وفي هذا الجانب لعل هذه الإنجازات هي ما لم يتوقف الرجل في المدة الأخيرة عن التذكير بها، وهو ما يسميه التقارب ونسميه نحن التطبيع، وما تسميه الدراسات الاستراتيجية الاختراقَ النوعي فيما يبدو انه تحول او مسار استراتيجي لإقامة تحالف إسرائيلي عربي سني، في سياق مشروع اكبر في المنطقة تدعمه إدارة ترامب لإعادة تشكيل او ترتيب توازنات الشرق الأوسط.
وعليه اذاً كم تساوي الحرب مع غزة في هذه الأوقات والحسابات الجيوسياسية؟ واذا كانت في الحسابات الاقتصادية تعني تدمير السياحة وتعني هروب الاستثمار ورجال الأعمال والشركات، وإغلاق المصانع بل وشل الحياة العامة، ما يؤدي كل يوم الى خسائر تعد بالمليارات، ولماذا؟. اذا كان الغزيون و»حماس» لا يريدون الحرب ولا تخفي «حماس» سعيها الى التهدئة، وان كل ما يطلبونه هو ان تنزل إسرائيل عن ظهورهم وترفع الحصار عنهم.
وكيف يمكن الذهاب الى حرب مع غزة اذا كان الرجل ووزراؤه استقبلوا أخيراً بصورة علنية في سلطنة عمان والإمارات العربية، ويتوقع بل وينتظر الرجل ان يُستقبل في وقت قريب في البحرين والإمارات وقطر، فهل هذا كلام الذهاب الى الحرب ؟ والتسبب بإحراج العرب الذاهبين الى عناق إسرائيل؟
وفي المنظور الاستراتيجي فان دولاً إقليمية اربعاً هي التي تدعي الآن تمثيلها للتوازن العربي السني في مقابل التوازن الإيراني السوري وحزب الله، وان مصر والسعودية هما الآن ثقل القرار الإقليمي العربي مقابل ايران وتركيا. ولم يعد السؤال مطروحاً اين تقف إسرائيل في هذا الاستقطاب، ولكن كيف يمكن كسب او معالجة «حماس» في ظل هذا التوازن، اذا كان نتنياهو يدرك او يراهن على ان هذا التحالف العربي الإقليمي هو بالأخير العامل الحاسم في تقرير شكل ومصير التسوية، لا مع غزة وانما مع الضفة على حد سواء. وهي رؤية ليست إدارة ترامب بعيدة عنها.
الاحتواء إذاً للوضع في غزة وربما اذا شئنا التوضيح اكثر لحماس ايضا، اذا كان من غير الممكن كسر «حماس» وإنهاؤها من الخارج بالحرب او القوة، لأن هذا الهدف يقتضي تحقيقه فعلا او بالمقابل تدمير غزة عن بكرة أبيها، أي إبادة كل غزة. وهذا دونه ضغوط ما يسمى حدود القوة او القيود على القوة. ولكن ما هو خفي رغم انه مكشوف للكل، هو ان هذا الاحتواء هو البديل لا عن الحرب غير الضرورية والخاسرة فقط، ولكن لأجل الحفاظ على هذا الانقسام او التفكك الفلسطيني الداخلي السياسي والجغرافي على حد سواء بين رام الله وغزة، من اجل إضعافهما معاً.
ولذلك فان السؤال الثاني الذي نطرحه في هذه المقاربة، هو ان كان في العقل السياسي او التخطيط السري لبنيامين نتنياهو ما يذهب به الرجل الى أبعد من الاحتواء الوضعي او الجاري والمؤقت، دون الخضوع للمزايدات الانتخابية للمعارضة وحتى للنخب في صفوف بعض الآراء الشعبوية لدى اليمين عموماً، للإقدام على الخطوات السياسية الجذرية التي كان يجب اتخاذها بعد حرب العام 2014 بالنزول عن ظهر الغزيين ووقف هذا الحصار الذي لم يعد محتملا، والخروج من الرهان العقيم باستمرار إدامة الوضع الراهن من دون سلام شامل مع الفلسطينيين. باعتبار ان العرب حتى المستعدين للتطبيع مع إسرائيل لا يمكنهم المضي في هذا المسار الى نهايته بالأخير دون إعطاء إسرائيل الثمن في انهاء الصراع مع الفلسطينيين.
واخيراً، اذا كان الرجل المحشور بكل الضغوط الداخلية ربما لا يريد في حقيقة الأمر لغزة ان تستنفد طاقته في ذروة المعركة مع ايران، وهي مفتاح إعادة تركيب التوازنات في المنطقة. فان ما يحدث في حال استمرار هذا الوضع ان مواطني غزة يوجدون في وضع من اليأس والشقاء بحيث لا يملكون ما يمكن ان يخسروه. وفي الاستراتيجية والجولات الأخيرة من التصعيد الذي يعادل فيها كل يوم حرباً مصغرة، فانه يحذر من الدخول الى حرب مع شعب على هذا الوضع. 
ولذلك فان المقاربة الاستراتيجية تجاه الوضع مع غزة هي التي سوف تحدد المفتاح في تقرير وضع الاستقرار في البنى السياسية والتحالفات الإقليمية، وان هذا العامل هو الذي يحدد مصير ما يسمى المصالحة. ما يفرض برأيي على القيادة الفلسطينية في رام الله مغادرة المقاربة السابقة ولكن هذه المرة لاحتواء الحالة الغزية عموماً وإقامة الشراكة عن طيب خاطر مع «حماس» اذا كان من غير الممكن تجاهل قوتها على الأرض. ما يعني بالأخير قطع الطريق على محاولة إخراج غزة من معادلة الصراع عليها، سواء برغبة أهلها وفصائلها للاستقلال بنفسها كدولة تحت تأثير ازمتها، او تحقيق هذا الخروج او الانفصال بفعل مخططات خارجية، وهذه هي المهمة الملحة الآن.