ثلاثية الدراما الفلسطينية : صفقة القرن ..المصالحة والتهدئة!! د.غازي حمد

الأحد 16 سبتمبر 2018 12:03 ص / بتوقيت القدس +2GMT
ثلاثية الدراما الفلسطينية : صفقة القرن ..المصالحة والتهدئة!! د.غازي حمد



(1) هرج ومرج سياسي

  كما هي العادة, تدخل الحالة الفلسطينية في دوامةجديدة من القضايا الساخنة التي تلهب الاعلام والساحة السياسية, وينتظر الناس على أحر من الجمر ان يتمخض الجبل, خاصة بعد تلك التصريحات "المؤملة" بان الازمة قاب قوسين أو أدني من الانفراج !!.

هرج ومرج في الساحة الفلسطينية: التباسات وتناقضات واتهامات, وأشياء غير مفهومة, وقدرة فذة على التنكيل الاعلامي..

من (صفقة قرن) غامضة وملتبسة..الى(مصالحة) تصارع الحياة..الى (تهدئة) تحاول شق طريق الاشواك وسط صخب وتوقعات غير مضمونة!!

هناك من يخلط ويعجن في هذه الطبخات الثلاث- ويشربكها في بعض- على أمل ان يخرج منها "زيت" دون جدوى !!.

(2) صفقة القرن : الشبح المرعب!

هذا "البعبع" المخيف!! اصبح شماعة سياسية وسيفا مسلطا على رقاب كل من "يجتهد" في الحقل السياسي, وصار حديث الشارع والفصائل والدواوين وقبلة المحللين والمعلقين, دون ان يتمكن احد من رؤية هذا الشبح أو لمسه!!

المعلقون والمحللون تنافسوا في تفنيد وتحليل وفك شيفرته,أما السياسيون فقد تسابقوا في سن السكاكين لمواجهته واسقاطه من الحلبة السياسية ,وحذرونا من أن هذا (الثور الهائج) سوف يحطم الاواني ويغير قواعداللعبة! 

لماذا يرعبوننا ب(صفقة القرن) وكأن فلسطين برمتها غير محتلة او كأن القدس لم تخضع لمشروع الفصل والتهويد..أو أن اللاجئين غير مشردين في الشتات..أو أن الضفة ليست غارقة في المستوطنات ..او كأن الاحتلال لم يستكمل مشروعه العنصري الاحلالي ... ؟؟

لماذا يجعلونها معركتنا (الكبرى) للفت نظر الشعب والفصائل عما هو اخطر من صفقة القرن والذي جرى –ويجري- تطبيقه وتنفيذه منذ توقيع اتفاق اوسلو:الاستيطان والتهويد وبناء الجدار العنصري والقتل ومصادرة الاراضي وفرض الحصار؟؟

لماذا تستعرض السلطة عضلاتها في مواجهة صفقة القرن,وهي التي لم تستطع -لا بالمفاوضات ولا بالاتفاقات ولا بالمعركة الدبلوماسية -ان تزحزح حجرا في مستوطنة او ان تتخلص من التنسيق الامني او ان توقف شبرا من تمدد السرطان الاحتلالي .. ؟؟ 

أليس من منح اسرائيل اعترافا والتزاما بأمنها وسلامة جنودها ومستوطنيها.. ومن تباهى بالتنسيق الامني ..ومن سمح للاستيطان ان يتمدد بصمته وضعفه..ومن منع مقاومة الاحتلال والتصدي للمستوطنين ..ومن لا يزال يؤمن بسلام موهوم مع بلطجية وقتلة..أليس من هو فرش الارض لصفقة القرن وفتح لها الباب على مصراعيه؟ .

لماذا تتباكى السلطة على أكذوبة فصل غزة, والضفة قد سلخت-سياسيا وجغرافيا- عن الوطن بسيف اوسلو منذ سنوات, وتحت سمعها وبصرها, بل وبسكوتها!!

ان (ترامب وجماعته) أشغلونا بغبائهم السياسي وثرثرتهمالفارغة التي يتولى كبرها جرينبلات وكوشنير, وجروا الحالة العربية والفلسطينية الى صراعات مفتعلة ومصائد سياسية استنزفت وقتنا وجهدنا, وهم يعتقدون أنه –بالابتزاز المالي- يستطيعون تطويع الفلسطينيين لحلول سياسية مهترئة تفتقد لأدنى درجات المنطق.

حتى لو نقلوا السفارة او شطبوا الأونروا أو منحوا الاحتلال صفة (الامبراطورية العظمى) فان هذا لن يغير لا من صورة الاحتلال اللاشرعية القبيحة ولا من تجذر الحق الفلسطيني الناصع قيد انملة. 

ثم لماذا الخوف اذا كان لدى الفلسطينيين من القدرة والامكانيات ما يمكنهم من افشال أي حل يراد فرضهبالقوة شرط عدم ترك مسامات الانقسام مفتوحة لتتسلل منها شياطين اللغو السياسي, وترك العبث في الساحة الفلسطينية لمراهقين هواة يبيعون "حكي فاضي" لا رصيد له وطنيا وسياسيا.

ان الانقسام وفشل مشروع التسوية أغرى ترامب وجوقته ان يسوقوا مشاريعهم التافهة,ولو كان لدى الفلسطينيين برنامج ورؤية استراتيجية وطنية لما كان لهذه الادارة المسكونة بعشق اسرائيل ان تتجرأ لتطرح بضاعتهاالفاسدة.

(3) لماذا يتكرر فشل المصالحة ؟؟ 

 مع استقراء مسار المصالحة –بشكل متجرد, وبعيدا عن التجاذب السياسي والاعلامي-يمكن معرفة لماذا تكرر الفشل, ومن دون الغرق في التفاصيل الصغيرة والنظر للصورة من بعيد يمكن تحسس مواقع الخلل التي صاحبت هذه المسيرة لأكثر من عشر سنوات.

منذ البداية, فان (اهل الحل والعقد) لم يدخلوا بيوت المصالحة(من أبوابها) ودخلوها من الابواب الخاطئة, ولذا ظلت حبيسة الفشل المتكرر.

للاختصار, هناك ثلاث تحديات/عقبات لازمت مسار المصالحة ,اولها سياسي وثانيها داخلي وثالثها اداري.

العقبة السياسية كانت في تجاهل البرنامج السياسي,الذي من المفترض ان يكون الارض الصلبة التي تبني عليها كل مركبات المصالحة من حكومة ومنظمة تحرير واجهزة امنية, وهذا الموضوع شكل في كل مرة قنبلة موقوتة, اخرها كانت في لقاءات القاهرة الاخيرة ,والتي ارادت فيها فتح فرض برنامج منظمة التحرير(اتفاق اوسلو) والمرفوض من اغلب القوى السياسية. بالمنطق لا يمكن تشكيل حكومة وحدة او اعادة صياغة منظمة التحرير من اطراف لها توجهات وبرامج سياسية مختلفة ما لم يتم التوصل الى صيغة برنامج وطني مشترك.

العقبة الثانية والتي تتمثل في تعمق أزمة الثقة بين حركتي حماس وفتح, لدرجة ان كل طرف يرى الاخر رافضا للمصالحة جملة وتفصيلا, ويتمترس وراء مواقف مصدرها معلومات خاطئة وانطباعات وهمية .(فتح) تتوهم ان حماس لا تزال متشبثة بحكم غزة وانها حريصة فقط على مصلحة موظفيها..وابو مازن يتخوف من الشراكة مع حماس لانه يخشى منافستها في منظمة التحرير وفي القرار السياسي , ولا يزال يعتقد ان سلاح حماس يشكل تحديا لمشروعه السياسي. 

وحماس لديها شكوك قوية بأن ابو مازن لا يريد تحمل عبء غزة ويتهرب من تحمل مسئوليتها ويريد تحويل غزة الى نموذج مطابق للضفة الغربية, بمعنى انه لا يرغب بوجود طلقة واحدة فيها.

هذه الهواجس تقف سدا  صخريا في وجه المصالحة وتشكل وقودا لإعلام محرض وهجومي يرجعها في كل مرة الى نقطة الصفر.

يمكن اذابة هذا الجليد من خلال اللقاءات المنفتحة والصريحة -والمتكررة -بدلا من اللقاءات (الموسمية) والسريعة والتي لا تزيد العلاقة الا بعدا وجفاء.

العقبة الثالثة, واعتبرها من اخطر العقبات, هي سوء ادارة ملف المصالحة( (Management, حيث ان الطريقة التي أديرت بها حوارات المصالحة منذ عام 2009 افتقدت الكثير من اصول المهنية, مما ادى الى (مطمطة) الحوار وتبدل النصوص وتأخر التطبيق مرات ومرات , واذا طبق فانه لا يصمد طويلا. 

على سبيل المثال لا الحصر, الحوارات, تارة تجري بشكل ثنائي وتارة بشكل جماعي , وتارة بمسار مصري -حمساوي , أو مصري- فتحاوي.. 

تارة تستمر يوما وتارة تنقطع شهورا.. تنام وتصحو, تنتقل من بيات شتوي الى اجازة صيفية !! 

تارة تستند الى نصوص ,2011 ثم يقفز عنها الىتفاهمات 2014 ثم تنتقل الى اتفاقية 2017 ثم تعاد الكرة ثانية الى 2011 , ثم نتحول من الاتفاقات الى المقترحات, تارة من حماس وتارة من فتح , وثالثة من المصريين , ويطلب من حماس ان ترد على ورقة فتح وفتح ترد على ردود حماس ثم تعود حماس لترد على ردود فتح, وهكذا ندخل دوامة لا اول لها ولا اخر!!.

ان ادارة الحوارات لم تكن منظمة ولا مجدولة ولا معد لها بشكل مهني ومتقن ومن ثم أوصلتنا الى حالة من الشلل.

الفلسطينيون –عموما- متهمون بالإدارة غير الناجحة لملفات الخلاف.

وبخصوص النصوص ,انظر مثلا اتفاقية 2017 ,والتي وقعت على عجل وتحت ضغط الظروف, اندفع الجميع الى تنفيذها بسرعة دون تحديد لمفاهيم النصوص والمصطلحات ليجدوا امامهم مشاكل جمة مثل مفهوم التمكين والجباية وعودة الموظفين والمعابر والامن ..الخ , واصبحت التفاصيل الصغيرة وكأنها الفتيل الذي فجر قنبلة الفشل .

ايضا هناك مشكلة في الوسيط وفي قدرته على التوفيق بين الرؤى المتناقضة وابتداع القواسم المشتركة وفي قدرته على المتابعة وحسم الامور في حال تعطيلها من أي طرف.

ان غياب الجهة المحكمة ذات المرجعية في الخلاف جعلت كل فريق يلقي بالتهم على الفريق الاخر. كمثال ترفيهي !! فريقا برشلونة ومدريد, وعلى الرغم امتلاكهما الخبرة العالية في كرة القدم الا ان وجود الحكم ضروري لضبط قواعد المباراة والحكم فيما كان الهدف صحيحا او تسللا !!

لهذا كله, فان الاتفاق يولد في كل مرة عليلا, ضعيف البنية قابلا للكسر.

ومع مرور الزمن ,تتعقد الاشكالات وتزداد الشروط . بالامس كان الحديث عن حل اللجنة الادارية ,واليوم يتمحور حول رفع العقوبات(بوابة حماس) والتمكين الكامل(بوابة فتح).

ان هذا المسار المتعثر-الذي لا مفر منه- بحاجة الى اصلاح جذري, يرتكز على الاسس التالية:

1- الخروج من استنزاف الحوار الثنائي الى الحوار الوطني
2- ان يؤسس الحوار على البرنامج السياسي 
3- ان يتم الاعداد للحوارات بشكل متقن من حيث النصوص واليات التنفيذ والجداول الزمنية
4- وجود جهة رقابية مستقلة تكون مرجعية حال الخلاف
(4) التهدئة ..بين البراءة والاتهام!

بعد أن تركت الحكومة غزة وغلقت خلفها الابواب ,وجدت حماس نفسها أمام ازمة انسانية وصلت ذروتها دفعتها للبحث في الخيارات المتاحة .الفرصة برزت في الحضور القوي لمسيرات العودة وتحرك بعض الاطراف لتثبيت التهدئة مقابل تحسين الوضع الانساني في غزة.

بالقطع, التهدئة –في كل جولات الحوار-لم يكن لها أي علاقة بأي وضع سياسي او سلخا لغزة عن منظومتها الوطنية, ولا اعتقد ان احدا من الفصائل السياسية الكبرى, والتي استمعت لحماس مثل الجهاد والشعبية والديمقراطية وغيرها, يمكن ان تسكت على أي خطأ قد تقترفه حماس. الشعبية اعترضت على التهدئة مستندة الى مفاهيم وطنية تراها صحيحة وليس لأجل المناكفة.

حماس (اجتهدت) في موضوع التهدئة باعتبار انه مخرج مؤقت لتخفيف الازمة الانسانية وليس له تبعات سياسية, وحصنت ذلك من خلال التشاور مع الفصائل بغض النظر عمن توافق او اختلف معها, حتى لا تتهم بالاستفراد بالقرار.

لقد تم تضخيم الموضوع وكأن التهدئة ستسقط فلسطين من السماء وغزة ستختفي من الخارطة الوطنية ,أو انها رصاصة الرحمة للمشروع الوطني!!

أليس هذا من السذاجة السياسية –فصدا أو جهلا ؟؟

من حق أي طرف انتقاد التهدئة أو معارضتها –فهي حالة اجتهاد سياسي قابل للصحة والخطأ – لكن دون غلو او افراط ودون لي عنق الحقائق.

لقد تسرعت(فتح) وارتكبت خطأ كبيرا في معالجة القضية, حيث حولت الامر برمته الى لائحة اتهام, تارة بأنه تمهيد لصفقة القرن , وتارة بانه تجاوز للسلطة وثالثة انه لصالح اجندة خارجية. ما سوقته (فتح) لم يكن حرصا على وحدة الحالة الفلسطينية بقدر ما هو قطع الطريق على حماس للخروج من شرنقة الحصار, وكان الاجدر بها معالجة الامر بشكل مختلف تماما. 

المشكلة عند حماس أنها غالبا ما تعمل تحت ضغط الواقع(الذي لا يتوقف), ويغيب عنها تعقيدات المعادلة السياسية وقدرة السلطة على التدخل وافشال الجهود وكذلك توجهات بعض الاطراف لعدم أي اعطاء فرص نجاح لحماس لتجاوز الازمة في غزة.  كما ان بعض الاطراف سوقت لحماس انه يمكن القيام باشياء يصعب تنفيذها في المدى القريب , وهو الامر الذي جعل بعض قادتها يرفعون سقف التوقعات اكثر من اللازم.. وهذا خطأ تكرر كثيرا , وينبغي ان يتوقف لانه ينعكس سلبا على مصداقية الحركة وكذلك على معنويات المواطنين.

مطلوب من حماس معالجة الملفات, سواء المصالحة او التهدئة, بكثير من التأني ودراسة الواقع بكل تعقيداته بشكل دقيق, وقبل ذلك الادارة المستندة الى الاصول المهنية وفن استدراج الاطراف الى حلول وسط وضبط ماكينتها الاعلامية والتي تخرج احيانا(عن النص) بما يشوه الصورة.

ختاما, ثلاثية الدراما الفلسطينية بحاجة الى معالجة سياسية/وطنية مهنية وليس الى حرب اعلامية داخلية..

دعونا نفكر بمنطق وطني مجرد, وبفهم جماعي غير حزبي, وبادارة متقنة لمعالجة الخلافات .

هكذا يمكن ان ننجح في تحويل الدراما الثلاثية الى بسمة أمل.