عن التسوية مع غزة أولاً ...حسين حجازي

السبت 18 أغسطس 2018 10:30 ص / بتوقيت القدس +2GMT
عن التسوية مع غزة أولاً ...حسين حجازي



قد نعرف الآن طبيعة الظروف والمتغيرات الدوافع والمبادرات، التي أدت بمجموعها للتوصل الى هذا الاتفاق حول ما يسمى التهدئة او الهدنة بين "حماس" وإسرائيل، او ربما الأدق التسوية أولاً مع غزة. وحيث عند هذه العتبة او المنعطف فان الأحداث قد تتكرر مرتين ولو بصورة رمزية، غزة وأريحا أولاً بعد الانتفاضة السلمية الكبرى عام 1987، التي انتهت باتفاقية أوسلو. والتسوية اليوم مع غزة أولا التي لها ما بعدها في أعقاب هذه الثورة أو الانتفاضة في غزة. ولكن المزيج المركب والنادر في محتواها في الوقت والزمن نفسه بين المقاومة السلمية الشعبية وبين الاشتباك الحربي والمسلح، أي في الجمع بين الانتفاضة الأولى السلمية والانتفاضة الثانية العنفية.
وهل كان هذا المسار في أحد أبعاده او في ذروته انما يرسم من جديد السياق التاريخي في هذا التشابه او التماثل، او حتى مواصلة السير على ذات الخطى بين الأخوة نفسهم، أي بين الحركتين الكبريين ولكن المنقسمتين او المتنافستين أي فتح وحماس؟. بحيث تبدو أخيرا "حماس" وكأنما تبلغ هذه الذروة او المنعطف من إغلاق الدائرة في هذه التكاملية بين أعمدة عرش أبوللو إله الحوار في الأساطير الإغريقية، أي من الكفاح المسلح الى المقاومة السلمية، ثم أخيراً الدخول في المفاوضات.
ولقد يمكن القول بشكل مواز ان حركة حماس مرت او اجتازت بالمثل الأطوار الثلاثة النموذجية او التقليدية، التي عرفتها جميع الحركات التحررية المشابهة. أي من المثالية او البراءة والعذرية والتي صبغت الحركة حتى فوزها في انتخابات العام 2006، الذي كان نقطة فاصلة في انتقالها الى الحكم، وبالتالي اجتيازها بعد ذلك طور الانتقال من المثالية او البراءة والعذرية بل والسذاجة، أي عدم الخبرة السياسية كما اشرنا هنا في حينه، الى الواقعية واكتساب المعرفة والخبرة هذا، أي في هذا الطور السياسي. وأخيراً من هذا المراس السياسي والتفرد في الحكم الى الطور الأخير والذي يتمثل الآن بالدخول من باب التفاوض واللعب باعتبارها لاعباً على قدم المساواة، باعتبار هذا الطور هو بوابة الاعتراف بشرعيتها الإقليمية والدولية. وفي السياق الداخلي الفلسطيني باعتبارها شريكاً على قدم المساواة، وربما وهذا هو الأهم التوازي مع "فتح" باعتبارها الأخ الثاني المقابل الكبير.
واستطراداً في هذه المقاربة او المقارنة فان عرفات و"فتح" اللذين وقعا على اتفاقية أوسلو، حتى من دون انتظار إجماع فصائلي على قرار عرفات. لأنه ايضا لا مناص من الاعتراف ان جميع هذه القرارات الحاسمة التي غيرت التاريخ لم تتخذ غالباً بالتوافق او الإجماع، الا ان عرفات في حالة التوقيع على اتفاقية أوسلو كان يستند الى انه الممثل والمرجعية للشرعية الوطنية، عدا عن مكانته الرمزية. وكانت اتفاقية أوسلو تتجاوز في محتواها مجرد كونها تسوية جزئية تقتصر على جزء من الوطن، وإنما لمرحلة انتقالية تتناول المشروع الوطني ككل لا يتجزأ.
واذ آمن عرفات على غرار جميع زعماء حركات التحرر من الاستعمار.. احمد بن بيلا وهوشي منه وغاندي، أنه في لحظة يجب التفاوض وجهاً لوجه مع الأعداء للتوصل الى حل للصراع. فان "حماس" التي طالما نظرت الى المفاوضات على انها تحمل قدراً من الدنس وعدم النقاء او الطهارة، قد تكون اختارت عبر هذا التفاوض غير المباشر مع العدو اجتياز نصف الطريق، قبل الوصول ربما في المستقبل الى هذا التفاوض المباشر.
واذ انتقد اليسار طوال الوقت عرفات وبعد ذلك انضمت اليهم "حماس" في انتقاد ابو مازن لتفردهما في اتخاذ القرارات، فقد كان لافتاً أن "حماس" قد حاولت الاستعاضة عن الشرعية التمثيلية او الرسمية التي كان يمثلها عرفات ومن بعده أبو مازن، بممارسة هذا التوافق والإجماع باشراك الفصائل الغزية في التوقيع على اتفاقيات التهدئة. وربما برروا هذا الاتفاق بان غزة التي كانت شبه محررة في اتفاقية أوسلو، سوف تصبح على قدر من التحرر شبه الكامل اذا استثنينا بعض القيود التي تتضمنها هذه الاتفاقية، فيما يتعلق بآلية المراقبة على الميناء البحري والمطار. ولكن الانطباع هو ان هذه هي النقلة الثانية بعد إزالة المستوطنات لإغلاق الثغرات التي كانت تتضمنها اتفاقية أوسلو فيما يتعلق بغزة.
كان أوسلو اتفاق عرفات و"فتح" وهذا اتفاق "حماس" بامتياز. لكنه ليس اتفاق أوسلو 2 وإنما قد يكون الاتفاق الذي يعقب الحروب الثلاث التي خاضتها "حماس" ضد إسرائيل، كنتيجة لإقرار إسرائيل المتأخر بإفلاس خيار الحرب العسكرية مع غزة او الذي استنفد جدواه وتأثيره. حتى لو كان الوجه الآخر للمسألة هو أيضا شعور أهل غزة بالتعب والإنهاك بعد هذه الحروب وسلسلة ممتدة من جولات التصعيد، التي كانت كل جولة منها تستحضر أيام هذه الحروب. وهذا يعني ان الضاغط الرئيسي للتوصل الى هذه التهدئة او الهدنة، كان ضاغطاً مزدوجاً ومُركبا، إفلاس الحل العسكري الإسرائيلي او الحربي على غرار الحروب الموسعة الثلاث مع "حماس" والفصائل الأخرى في غزة، وتعب الغزيين من هذه الحروب والحصار والانقسام والبطالة والكهرباء الى آخره.
واذ بتنا نعرف ان الخطوة الأولى في الطريق للتوصل الى هذا الاتفاق، الذي هو نفس الاتفاقيات التي وقعت بعد حربي العام 2012 وعام 2014، في الزيارة السرية لبنيامين نتنياهو الى القاهرة يوم 22 أيار الماضي، والطلب من الرئيس عبد الفتاح السيسي التوصل مع "حماس" لعقد هذه الاتفاقية او التسوية مع غزة، ولقاء الوزير ليبرمان مع السفير القطري العمادي في قبرص في شهر حزيران الماضي. فان المسألة في نهاية المطاف او هذه الطريق هي اكبر من حدود هذه الاتفاقية في محتواها الأمني والإنساني كما يجري تسويقها، وانما هي المدخل لعملية استراتيجية اشمل من ذلك وأبعد من غزة، وتتصل بما اشرنا اليه هنا عدة مرات، هو اعادة ترتيب التحالفات الإقليمية في المنطقة.
ولهذا ليس صدفة او دون مبرر او سبب ضاغط للتحرك المصري والأممي الذي يتوسط في عقد هذه الاتفاقية، إصرار هذين الجانبين على إشراك السلطة الفلسطينية والرئيس محمود عباس في تغطية هذه التسوية. وليس صدفة  في ذروة هذه المحاولة لعقد التسوية مع غزة ان الدولتين الإقليميتين الأكبر والأكثر تأثيرا في الإقليم والعالم العربي، أي مصر والمملكة العربية السعودية، قد أصدرتا في وقت متزامن تقريباً الشهر الماضي موقفاً واضحاً إزاء أي حل مستقبلي يوافقان عليه او يدعمانه، لاشتراط ان يكون هذا الحل أو التسوية مقبولة من الفلسطينيين. وإذا كان هذا الاشتراط يفترض تسوية مقبولة مع الفلسطينيين ككل أي مع الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، كمدخل للموافقة أو الاشتراك او المصادقة على هذه الترتيبات والتحالفات الإقليمية، فانه من المبكر ربما الاعتقاد أو الافتراض ان التسوية مع غزة قد تكون انفصالاً عن حل القضية الفلسطينية ككل.