عن الحراك الجماهيري ..عبد الغني سلامة

الأربعاء 20 يونيو 2018 02:45 م / بتوقيت القدس +2GMT
عن الحراك الجماهيري ..عبد الغني سلامة



في شطري الوطن، خرجت مسيرات شعبية، وقُمعت بشدة، وسادت حالة حادة من الجدل والتجاذب وتقاذف التهم، أوصلت المواطن العادي لدرجة عالية من الاستياء.. وصار ضروريا توضيح بعض النقاط:
منظمات الـ NGO's ليست كلها واحدة، ولأن التعميم لغة الحمقى؛ من الخطأ تعميم وصف معين عليها؛ فمنها من يعمل بطريقة خاطئة، ومنها من يخدم البلد.. والعاملون فيها هم في النهاية مواطنون فلسطينيون، لهم كل الحق بالتعبير عن آرائهم الخاصة، وليس من حق أحد أن يجردهم من وطنيتهم، وأولئك الذين يشتمونها ليل نهار، وهم في قرارة أنفسهم يحلمون بفرصة توظيف فيها، إنما يعانون من الانفصام في الشخصية.. وإذا بدأت هذه المنظمات بأخذ دور أكثر تأثيرا في المجتمع، فهذا دليل على تراجع دور الفصائل الوطنية. 
لليسار الفلسطيني تاريخ مشرف في النضال الوطني، وهم شركاء أساسيون في المشروع الوطني، وهم ليسوا "كفارا"، ولا غرباء عن هذا الوطن، ولا طارئين عليه.. هم نبت هذي الأرض، لهم رؤيتهم الخاصة، وإذا كان لنا لوم عليهم؛ فلأنهم تراجعوا قليلاً عن يساريتهم. 
فتح، ومعها فصائل منظمة التحرير مفجّرة الثورة، وهي التي قادت انتفاضتين شعبيتين كبيرتين، ولها سجل من الشهداء والأسرى بحجم دليل الهاتف.. وهذا السجل ما زال مفتوحا، وينزف دما أحمر.. لكن البعض ممن يمتلكون ذاكرة سمكة، وينخدعون بالشعارات الشعبوية، ويبنون مواقفهم على آخر خبر يسمعونه؛ صدقوا أنها تخلت عن نهجها الكفاحي، فصارت في نظرهم محور الاستسلام، والآخرون هم محور المقاومة!! فتح، ومعها فصائل المنظمة هم الأصحاب الحقيقيون لنهج المقاومة، وهم من يمثلونها أصدق تمثيل, وهناك فرق بين المقاومة التي تفهم الظرف التاريخي، وتراعي مصالح الشعب، وموازين القوى، وتقرأ الخارطة السياسية بشكل صحيح.. وبين الطارئين على المقاومة، الذين أقحموا الشعب بمغامرات عسكرية غير محسوبة، الذين يتعاملون مع الجماهير كفئران تجارب، ويتخذون منهم رهائن لحساباتهم الفئوية.. الذين بدؤوا بشعارات كبيرة رنانة، وانتهوا بمجرد الحلم بفتح معبر، أو بناء مطار وميناء، حتى لو كان ثمن ذلك التضحية بكل الوطن، وبالقضية. 
في مسيرة الشعب الفلسطيني، الكل ضحى وقاوم، والكل أخطأ.. وهناك من اقترف خطايا وجرائم.. لكن، وللأسف لا أحد يعترف بخطئه، لم نعتد على ممارسة النقد الذاتي، ومراجعة المسيرة.. وتلك هي الخطيئة الكبرى. 
لغة التخوين، والتكفير، والاتهامات المتبادلة، والردح، والشتائم، واستسهال إطلاق الأحكام، وتصنيف الآخرين.. للأسف هو المنهج السائد حالياً، وهذا النهج عبارة عن نشر غسيلنا الوسخ أمام الحارة، بل أمام العالم.. ولن ينتج عنه سوى المزيد من التراجع والسقوط.. من يدافع عن السلطة ليس "سحيجا"، ومن يدافع عن اليسار لا يخدم أجندات خارجية، ومن يدافع عن "حماس" ليس ظلاميا.. توقفوا عن هذا الهراء.. البلد تشهد حالة عنيفة من الاستقطاب، حالة تنذر بالخطر القادم، وعلينا جميعا الارتقاء إلى مستوى المسؤولية.. 
قمع المسيرات الشعبية من قبل الأجهزة الأمنية فعل مستنكر ومدان، واعتداء صارخ على المواطنين، وعلى الحريات، وعلى السلطة نفسها.. هو عمل غبي ومستهجن بكل المقاييس، ولا يمكن تبريره.. الديمقراطية الحقيقية تعني حق كل جماعة بالتعبير عن رأيها مهما كان مخالفا، طالما أنهم يعبرون بطريقة سلمية حضارية.. حتى لو كان هدفهم إسقاط السلطة.. والسماح لمثل هذه المسيرات إنما يقوي النظام السياسي، ويزيده منعة.. ولكم في دول الغرب عبرة لمن أراد أن يعتبر.. أما الإمعان في نهج القمع، فلن يكون سوى دليل على الخوف من الشعب.. الشعب الذي خذله الجميع..
رفع العقوبات عن غزة مطلب حق ومشروع، لأن رواتب الموظفين حق كفله القانون، وحرمان الموظفين في غزة من رواتبهم، إنما يضر بالدرجة الأولى بحركة فتح، لأن هؤلاء هم القاعدة الاجتماعية لفتح، هم أبناؤها وأنصارها.. وهو بالتأكيد يضر أيضا كل القطاع المحاصر ظلما.. وهذا الإجراء خاطئ تماما، ولن يؤدي إلى النتائج التي توقعتها القيادة، أي الضغط على حماس لإنهاء الانقسام، لأنه سيؤدي إلى انفجار شعبي عشوائي في وجه الجميع، وبالتالي دخول المنطقة في مرحلة من الفوضى العارمة، وفقدان السيطرة على كل شيء. 
لكن رفع العقوبات، على أهميتها، لن تحل إلا جزءا يسيرا من الأزمة.. أزمة غزة ابتدأت فعليا في اليوم الأول للانقلاب.. ولن تنتهي إلا بتراجع حماس، وتخليها عن مشروعها "الإخواني"، لصالح المشروع الوطني الفلسطيني، أي تسليم القطاع للسلطة، وتمكين الحكومة، ودخول حماس منظمة التحرير، وانخراطها الفعلي في النظام السياسي الفلسطيني بشراكة كاملة.. وفقا للميثاق الوطني.
لذلك، كان من المستغرب رفض القائمين على الحراك الجماهيري تضمين شعارات "إنهاء الانقسام"، أو الإشارة لمسؤولية حماس، ما غذى الشكوك لدى كثيرين بأن المسألة نكاية بالسلطة، لا حباً بغزة وأهلها الصامدين.. وما يعمق هذه الشكوك ضبابية وغموض الجهات القائمة على الحراك، وصحوهم المتأخر.  
لو قامت مثل هذه المسيرات بهذا الحجم، وبهذه الكثافة الإعلامية في عموم الوطن؛ داخل الخط الأخضر، وفي الضفة الغربية والقطاع، وفي الشتات، منذ وقت مبكر، وتحت شعار وحيد هو "إنهاء الانقسام".. لكنا انتهينا من الانقسام منذ سنوات، وطويناه وراء ظهورنا. 
شعار "علمانية برا برا"، الذي رفعه أنصار حماس في غزة، إنما هو دليل عمّا يعتمل في صدور هؤلاء القوم، مشكلتهم أنهم يرون فتح واليسار مجرد علمانيين كفرة، لا يمكن شراكتهم، بل ينبغي طردهم.. وكل التحالفات وفترات الهدوء النسبي التي أقاموا مع الآخرين، إنما هي ممارسة نوع من التقية.. أي الانتظار لحين التمكين.. وما تفعله حماس منذ 11 سنة، تحت يافطة الحوار الوطني، إنما تأجيل وتسويف ومراهنة على متغيرات قد تحدث لصالحها.. بما يمكّنها من الاستمرار في مشروعها الانفصالي.. وإذا قال أحد أنها مجرد شعارات فردية لمجموعات صغيرة، عليه أن يراجع مئات التصريحات لقادة ومشايخ حماس على امتداد عمر الحركة، ليتأكد أن هذه الحركة لا تؤمن بأي شراكة وطنية، ولا ترى سوى نفسها صاحبة الحق بالولاية.. لكنها ستكون مجرد ولاية على القطاع (وربما مع جزء من سيناء)، ضمن صفقة يُعد لها بليل، تسمى صفقة القرن.