مركز أطلس.. بين تفاؤلية الأجواء وتشاؤمية الواقع

الإثنين 28 مايو 2018 11:17 ص / بتوقيت القدس +2GMT
مركز أطلس.. بين تفاؤلية الأجواء وتشاؤمية الواقع



منذ ما قبل اثنين غزة الدامي والعظيم، تهامس الناس وسرّبت بعض المواقع عن أمر حراك جدي تقوده دول كبرى وأخرى إقليمية، يهدف إلى حلحلة أزمات غزة المستعصية والمتفاقمة، التي تنذر بالمزيد من الانفجارات المتتالية، والتي لا يعرف أحد إلى أين قد تصل، وقد تعاظمت هذه الجهود في الأيام الماضية، وتزداد تعاظمًا مع كل يوم. الجهود التي بدأت متواضعة وحملت هدفًا له علاقة بتخفيف الأزمة وحلحلتها، وركزت في البداية على تقديم مساعدات لتطوير البنى التحتية في مجالات المياه والصرف الصحي ودعم الحقل الصحي؛ صارت أكثر طموحًا بالتوصل لاتفاق هدنة طويلة الأجل، وهناك من طالب بـ "فصل الإنساني عن السياسي"، لكن هناك أيضًا من يرغب بربط كل ذلك بسياق سياسي يخدم السياق السياسي الإقليمي، وأن تشكّل غزة بداية لانطلاقته أو ألا تشكل غزة عقبة في طريقه.

والحقيقة أن ما بدأ همسًا وتسريبًا هنا وهناك، أصبحت الأخبار المفصحة عنه والتقارير التي تنشر بعض جوانبه تقصفنا بشكل يومي، حتى بات كل غزي يشعر بأن أمر الانفراج الكبير هذه المرة بات يقينًا مؤكدًا، وأن المسألة أصبحت مسألة وقت وبحث في الإجراءات، وربما وصلنا إلى مرحلة بحث اللمسات الأخيرة لإنضاج اتفاق مقبول.

ورغم أننا لا نملك أية معلومات سوى المعلومات المتاحة والمنشورة، فإن الشيء المؤكد أننا نعيش في حالة كبيرة من أجواء التفاؤل غير المسبوقة، فلأول مرة نشعر بأن ثمة تحرك وإرادة جدية بالخوض في المسألة الغزية من قبل دول المنطقة ودول إقليمية ودولية كبرى، وهي بخلاف ما كانت عليه حراكاتها السابقة التي كان هدفها إسقاط الواجب وبعض العلاقات العامة؛ فإنها في هذه المرة تبدي رغبة حقيقية، ويبدو ان هذه الرغبة الحقيقية مدفوعة بفعل ثلاثة عوامل مترابطة مع بعضها البعض من حيث تبادل التأثير، وهي: الموقف الأمريكي، استعداد نتنياهو لإعادة التفكير بموقفه المتصلب، ومسيرات العودة ورفع الحصار.

فالموقف الأمريكي بات في الأشهر الأخيرة يبدي اهتمامًا ملحوظًا تجاه القطاع، وقد ازداد هذا الأمر مع مرور الوقت، وفي هذه الأيام ينغمس المبعوث الأمريكي غرينبلات في بلورة تصور ما، وتحديد أدوار كل جهة من الجهات الدولية والإقليمية، ويقوم بزيارات مكوكية لهذا الغرض، وهو مثل المايسترو الذي يركز كل هذه الجهود لتحقيق أكثر من هدف إن استطاع، وفي مقدمة أهدافه تقديم مساعدة كبرى لإسرائيل في التخلص من التحدي الأمني والاستنزافي والأخلاقي والسياسي بدون ثمن حقيقي تدفعه إسرائيل، ويطمح أن تكون درة التاج في جهوده إعادة الأسرى الجنود، لكن طموحه الأكبر خدمة صفقة القرن. وفي كل الأحوال، فإن معادلته تقوم على استغلال المسار الإنساني لصالح المسار السياسي، وليس صحيحًا ما يروج من "فصل الإنساني عن السياسي"، فهذا أمر غير ممكن بحكم واقع الأمر، وبحكم أنه لا أحد يقدم وجبات إنسانية مجانية، فلن يقدموا لحماس ما يحررها ويحرر القطاع من الضائقة الاقتصادية والإنسانية، دون ان ينالوا منها، على الأقل الحد الأدنى من الالتزامات الأمنية.

أما بخصوص الموقف الإسرائيلي (والذي يحتكره تحديدًا نتنياهو وليبرمان) فإننا لا نعتقد بأنه شهد تراجعًا أو تغيرًا مهمًا حتى هذه اللحظة، ولكن ربما ما يحدث ان نتنياهو لم يعلن رفضه للمبادرات التي تقدم، وبات أكثر انفتاحًا على دراستها أو بمفهوم آخر منحها فرصة وعدم إعلان موقف نهائي منها قبل بلورتها ورؤية ما الذي تقبل به حماس وكيف سيخدم الأمر الاستراتيجية الإسرائيلية، وكيف سيخدمه أيضًا داخل الحلبة السياسية الإسرائيلية.

الموقف الإسرائيلي يمكن فكفكته إلى عناصر محددة: الأول ان إسرائيل لن تمانع زيادة التدخل القطري الإنساني والانفتاح المصري على غزة، بهدف تخفيف الضائقة الإنسانية، بل إنها ستشجع هذا الاتجاه، مع حفاظ هذه الدول على درجة عالية من تنسيق مواقفها وتحركها على مستوى تخفيف الأزمة مع تل أبيب. الثاني ان إسرائيل سترحب بأي تدخل أممي على مستوى الأزمة الإنسانية في مشاريع الإغاثة العاجلة ومشاريع البنية التحتية بشرط تجاوز حركة حماس، وكل ذلك ستحاول تل أبيب ربطه بوقف أو تبريد مسيرات العودة. أما المحدد الثالث فهو ما يتعلق بإسرائيل مباشرة، وهو المرتبط بالملفات الأكثر سخونة (مثل: الحصار البري والبحري ووقف إطلاق النار وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين) وما يتعلق بما يسمى بالبنية التحتية العسكرية لفصائل المقاومة، وهنا يكمن جوهر الموقف الإسرائيلي، الذي إن لم نقل أنه لا زال متشددًا، فهو في أحسن أحواله بات منصتًا لإحداث اختراقات محدودة، ومنفتحًا على إعادة التفكير بشروطه السابقة أو لاءاته القاطعة، والأمر هنا منوط بحجم الضغط الأمريكي إن كان لدى الأمريكان قناعات سياسية جادة، ومنوط بحجم التهديد الغزي على دولة الاحتلال والمتمثل سواءً باستمرار المسيرات وتداعياتها والذي قد يتولد عنه انفجارات شعبية متتالية على الحدود وموقف المجتمع الدولي أو المتمثل بجولة عسكرية كبرى في ظل تعقيدات وحساسية الحالة الجيوسياسية في المنطقة، بدءًا من الملف الإيراني والمشهد السوري، وليس انتهاءً بالسيولة المهددة للنظام السياسي الفلسطيني، وانعكاسات ذلك على الاستقرار الأمني في الضفة.

وعودة إلى مستوى احتمالية تحوّل الأجواء الإيجابية إلى واقع ملموس، نعتقد بأن الأمر أعقد بكثير ممّا يمكن لمتابع أن ينخدع به، فرغم تفاؤلية الأجواء فإن الواقع أكثر تشاؤمية للأسف الشديد، فبدون المصالحة - التي تمكّن من عودة السلطة - فإن أية انفراجات ومساعدات أممية بدون رفع الحصار البحري، قد يكون لها أولًا ثمن سياسي أو التزامات أمنية، ثانيًا والأهم فإنها في كل الأحوال لن تساهم إلا بالشيء اليسير جدًا في حل الضائقة المعيشية والإنسانية في غزة، المتمثلة بالبطالة والفقر والنقص الشديد في الكهرباء ودمار البنية الاقتصادية، وأخيرًا فأن تفاؤلية الأجواء يجب ألا تصيبنا بنشوة الإنجاز أو الانتصار أو الهرولة سريعًا دون تقدير العواقب، فلا زالت مسيرات رفع الحصار في بدايات تأثيرها، واستعجال الحصاد هو الوصفة الأخطر لاحتوائها وإجهاضها قبل أن تبلغ مداها، وفي ظل الانقسام يبدو أنه سيكون من الصعب جدًا الحديث عن انفراجات مرضية، فلابدّ وبشكل متوازٍ مع المسيرات من الاستمرار في دق جداران الانقسام.