الصدر... مفاجأة الانتخابات العراقية...عبير بشير

الأربعاء 23 مايو 2018 11:24 ص / بتوقيت القدس +2GMT



من العراق، كانت البداية، انهار هذا البلد، على وقع أربع حروب أحرقت الأخضر واليابس، وأحالت العراق إلى ركام سياسي واقتصادي وحضاري وعمراني: الحرب الإيرانية العراقية، وحرب الخليج الأولى والثانية، والحرب ضد داعش، ومن ثم تدحرجت كرة النار لتحرق المنطقة. 
تعلم العراق باللحم الحي، أنه لم يعد ممكناً أن يحافظ العراق على وجوده وكيانه واستقراره دون الوصول إلى علاقات متوازنة ومتطورة مع كل جيرانه دون استثناء، وعلى رأسهم المملكة السعودية، وقد دشنت زيارة رئيس الوزراء حيدر العبادي للرياض، انطلاقة قوية وواعية في العلاقات بين البلدين، وإعادة زخم العلاقات الأخوية بينهما سياسياً واقتصادياً. وقد ساهم عاملان حاسمان في إحداث هذا التحول النوعي :الأول هو القرار السعودي بعد عقود من التشنج، بعدم خسارة العراق نهائياً، وتركه لإيران، وثانياً، تشكل بيئة شيعية مطالبة بالعودة إلى العمق العربي.
كما تعلم العراق، إعادة الربط بين ثابتين شكلا منذ أكثر من خمسة قرون حيوية العراق ونكبته، وهما الدمج بين الجيو سياسي، والجيو ديني؛ خاصة أنهما يشكلان معاً هويته المركبة والمحكومة بموقعه وجواره سياسياً، وبغناها الحضاري والديني اجتماعياً. 
ورغم نجاح الشيعة السياسية الإيرانية في شطب صور الاضطهاد والاستضعاف والتي ميزت الوجود الشيعي في العراق، وحل مكانها مشاهد الاستقواء والهيمنة على الأخوة في الوطن، والتهجير السكاني المنظم لأحياء عراقية سنية، والإلغاء السياسي لقادة وأحزاب سنية. إلا أن طهران رعت حفلة نهب منظمة للدولة العراقية، وتبديد ثروات العراق، وتعميق الجراح بين العراقيين. ودخل العراق في تاريخ علاقة الشيعة بالدولة في مربع الفشل الذريع في إقامة دولة مستقرة بالحد الأدنى وقادرة على توفير منسوب معقول من الأمن والخدمات في قطاعات الصحة والتعليم والبنية التحتية لمواطنيها، رغم الثروة النفطية الهائلة.
مقتدى الصدر، مفاجأة الانتخابات العراقية، ورجل الدين وزعيم التيار الصدري، والمتصدر سباق الانتخابات البرلمانية العراقية، هو نجل محمد صادق الصدر أبرز رجال الدين الشيعة المعارضين للرئيس الأسبق صدام حسين الذي قتله مع اثنين من أبنائه في العام1999.
وهو في نسخته السياسية الأخيرة، ابن هذه الخيبة العراقية، وانتفاض العراقيين والشيعة على هذه الخيبة. وبذل الصدر جهودا جبارة، ليرسخ صورته في أذهان العراقيين أنه سياسي من خارج - نادي الأحزاب العراقية - التي احترفت لعبة المحاصصة وحكم العصابات. ونصب الصدر نفسه والياً على مكافحة الفساد، ومدافعاً عن الفقراء الشيعة الذين يعيش بينهم، وقاد الصدر منذ عامين تحالفاً مع أعدائه السابقين- الحزب الشيوعي- ومدنيين مستقلين وسنّة، لتصعيد معركته ضد الفساد التي توجها باحتلال المنطقة الخضراء، وعلى هذه المنصة حل الصدر أولاً في الانتخابات.
لم يكن الصدر أميركي الهوى، فقد حمل الصدر باكراً البندقية في وجه الاحتلال الأميركي، يوم كان حزب الدعوة الأول في الوقوف مع الأميركي.
وظل الصدر يستنزف شرعية النخبة العراقية العائدة من المنافي إلى العراق فوق الدبابات الأميركية. في الوقت الذي كان فيه الصدر موجودا بين العراقيين، ويتعرض لبطش نظام صدام حسين. وانتقل الصدر إلى خانة القومية العراقية متدرجاً في نقد طهران وواشنطن ومنحازاً لمظالم العراقيين غير الشيعة كسنّة الأنبار، الأهم ان الصدر نجح نجاحا منقطع النظير في أن يستثير الوطنية العراقية ويستثمر في الفشل السياسي والإنمائي الذي ميز أداء الحكومات والأحزاب وخصوصا الشيعية منها. وهو بادر إلى تلبية التوجه السعودي في العودة إلى العراق.
وتوجت جماهير الصدر الاحتفال بالنصر الانتخابي، بهتافات: إيران برّا برّا، بغداد حرة حرة، بعدما جاهر السيد علي ولايتي، مستشار خامنئي في وقت سابق، بأنه لن يُسمح للصدر بأن يحكم العراق. 
ما تخشاه إيران ليس فقط القدرة الاستقطابية التي تتميز بها حركة الصدر، ونجاحه في تظهير الفشل الإيراني المريع في العراق في بناء دولة تمتلك حداً أدنى من مقومات الدولة، ومن موقع متصلب تجاه الأميركيين. ما تخشاه إيران أكثر أن الإرث العربي في الهوية السياسية الصدرية إرث راسخ وعميق وليس تمظهراً سياسياً، رغم التعرجات والتشوهات التي مرت بها هذه الهوية. وقد شكلت زيارات الصدر إلى الرياض وأبو ظبي والقاهرة، انعكاسا حقيقيا لتلك الثوابت.
وحاولت طهران تطويق فوز الصدر ومعه تطويق الاختراق السعودي العربي للعراق، وذهب الجنرال قاسم سليماني، فورا إلى العراق، لفرض الخيار الإيراني، وذلك عبر جَسر الهوة بين العبادي ونوري المالكي اللذين ينحدران من حزب الدعوة، ولكن تحولا إلى منافسين شرسين، وخاضا الانتخابات منفردين، من أجل تشكيل الكتلة الأكبر، بعد إضافة قائمة هادي العامري الذي يقود لائحة –الفتح - التي تمثل عناصر الحشد الشعبي المدعومة من إيران، والتي حصلت على المرتبة الثانية في الانتخابات، تمهيداً لتشكيل الحكومة العراقية الجديدة. 
في المقابل، صعد مقتدى الصدر من لهجته المعادية لطهران، وذهب ابعد من ذلك، فقد أعطى قائد فيلق القدس قاسم سليماني مهلة ثمان وأربعين ساعة من أجل الخروج من الأراضي العراقية. وفي الوقت الذي يجري فيه محادثات مع رئيس الوزراء حيدر العبادي لتشكيل حكومة وطنية جامعة – حكومة أبوية- تقطع الطريق على إيران وترعى العراقيين، وليست حكومة – خلطة العطار-. ورغم أنه من المبكر الحكم على نجاح هذه الجولة من المفاوضات، وذلك مع تأكيد الصدر أنه لن يسمي العبادي رئيسا جديدا للوزراء، ما لم يعلن الأخير استقالته من حزب الدعوة المقرب من طهران.
ولا شك بأن فوز تحالف – سائرون- الذي قاده الصدر، بالموقع  الأول في الانتخابات العراقية، هزّ كرسي سليماني في بغداد، لكنه لا يعني أن إيران باتت –برا- كما نادى وينادي كثير من القوى العراقية والتيار الصدري. كما لا يعني ذلك نجاح مقتدى الصدر في تسمية رئيس الوزراء المقبل، وتشكيل الحكومة العراقية الجديدة. وذلك لأن عدد المقاعد التي حصل عليها قادة الأحزاب شبه متقاربة، وإذا كان الصدر المنتصر الحقيقي قد حصل على ستة وخمسين مقعداً مع حلفائه في –سائرون - فإن هادي العامري حصل على عدد متقارب جداً من النواب، وكلاهما بحاجة إلى جمع مائة وخمسة وستين نائبا على الأقل، من مجموع ثلاثمائة وتسعة وعشرين نائبا، لتشكيل الكتلة الأكبر التي سيوكل إليها تشكيل الحكومة المقبلة.
والأهم أن العراقيين عاشوا مثل هذه الأجواء قبل ثمانية أعوام، عندما فازت قائمة –الوطنية- بزعامة رئيس الوزراء العراقي الأسبق إياد علاوي بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان. وكانت تعد الناخب بتخطي الانقسامات الطائفية. إلا أن قرارا نهائيا صدر من طهران، مقابل تخلٍ من واشنطن، أدى إلى عودة نوري المالكي للحكم.
وخلاصة القول، بأن نتائج الانتخابات العراقية، لن تؤدي إلى تغيرات دراماتيكية في المشهد العراقي المركب، ولا إلى الخروج من العباءة الإيرانية، ولكنها تؤشر إلى ان ثغرة مهمة قد فتحت في السور العراقي الطائفي، وفي حال نجح الصدر في تشكيل الحكومة العراقية بدون قائمة دولة القانون او لائحة الفتح، فسيكون ذلك النواة الأولى للعراق الجديد.