على مسافة واحدة من فلسطين وإسرائيل..محمد ياغي

الجمعة 18 مايو 2018 02:02 م / بتوقيت القدس +2GMT



هناك ظاهرة جديدة لافتة في الحالة العربية: غالبية الدول العربية الرسمية تنتقل بالتدريج من حالة التأييد العلني للفلسطينيين، حتى وإن كان ذلك مجرد تأييد "لغوي"، إلى حالة من الحياد تجاه الصراع ومن ثم، ربما، إلى حالة من العداء لهم.
حتى وقت قريب كان النظام العربي الرسمي يصطف إلى جانب الشعب الفلسطيني وحقوقه، وإن اختلف مع قياداته: إدانة السلوك الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين لم يتطلب جهداً فلسطينياً لإقناع أشقائهم بضرورة القيام بذلك. التوجه إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن لإدانة ممارسات إسرائيل بحق الفلسطينيين كانت "التخريجة" العربية الرسمية لإعفاء أنفسهم من أي مسؤولية عملية في مساندة الفلسطينيين، المساعدات المالية كانت تخريجة أخرى لمنع "الفلسطيني" من انتقاد الموقف العربي الرسمي. 
اليوم المسألة تختلف. 
بعض الأصوات العربية الرسمية لا تجد حرجاً في الانتقال إلى الموقع المحايد، وبعضها أكثر جرأة وعلى استعداد للانتقال إلى الموقع المعادي أيضاً. 
اقرأوا مثلاً هذا التصريح لزعيم عربي: "نتمنى أن تصل رسالتنا للإخوة الفلسطينيين أن يكون التعبير والاحتجاج في الإطار الصحيح، وعلى الإسرائيليين أن يتفهموا أن ردود أفعال الفلسطينيين على نقل السفارة مشروعة".
الزعيم العربي يطالب الفلسطينيين بالتعبير في "الإطار الصحيح" الذي لا يعرف أحداً فحواه. هل المقصود شكوى لمجلس الأمن أم وقفة حداد على تصفية ملف القدس. والإسرائيليون في المقابل يتفهمون ذلك، ويبقى الحال على ما هو عليه، "ويا دار ما دخلك شر".  
هذا الموقف مثلاً أقل بكثير من الموقف الفرنسي أو البريطاني. الأخيرة طالبت بلجنة تحقيق دولية في الجرائم التي ارتكبت بحق الفلسطينيين العزل في غزة. 
وهو أقل بكثير من الموقف التركي والإيرلندي ومن موقف جنوب أفريقيا التي استدعت سفيرها من إسرائيل. 
هذه ظاهرة مفزعة حقاً لم يعتد عليها الفلسطينيون. لا نقول ذلك بافتراض أن الفلسطيني كانت لدية قناعة بأن النظام العربي الرسمي سيعلن الحرب يوماً على إسرائيل أو سيقطع علاقاته الاقتصادية والسياسية مع أميركا ما لم تقم بالانتصار للشعب الفلسطيني، ولكنه لم يتوقع أن تصل جرأة بعض العرب الرسميين إلى الانتقال علناً إلى موقف الحياد، وربما لاحقاً إلى الضغط على الفلسطينيين للقبول بتصفية قضيتهم. 
هذه الجرأة العربية "الرسمية" في أخذ موقف الحياد وربما العداء للفلسطينيين لها أسبابها بالتأكيد.
لعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن من يهن عليه سحق شعبه وقتله في الساحات العامة، لا يجد حرجاً في الانتقال من مساندة الفلسطينيين إلى رؤيتهم على مسافة واحدة مع الإسرائيليين. هذا إذا أردنا أن نترك قليلاً من حسن النية. 
وفي السياق نفسه يمكن القول أيضاً، إن من لا يمتلك شرعية حقيقية من شعبه سيبحث عنها في مكان آخر، وهذا المكان في تقدير غالبية الدول العربية الرسمية هو أميركا التي يمكنها أن تجعل حياة هؤلاء سهلة أو جحيماً. 
لكن أميركا لها مفاتيح، ومفاتيحها لمن لا يمتلكون الشرعية موجودة في إسرائيل وفي اللوبي الخاص بها في واشنطن، وكلاهما ليس على استعداد لتسهيل مهمة العرب الرسميين في واشنطن دون مقابل، وهو على أقل تقدير الوقوف على مسافة واحدة من الإسرائيليين والفلسطينيين. بمعنى آخر تحييدهم في هذا الصراع.
يمكن أيضاً إضافة أن مواقف القيادة الفلسطينية سهلت على العرب الرسميين أخذ موقف الحياد هذا.  
الحقيقة أن الاستمرار في سياسة مسك العصا من المنتصف التي تتبناها القيادات الفلسطينية في علاقتها مع النظام العربي الرسمي بحاجة إلى مراجعة. لكن هذه المراجعة لن تكون مفيدة ما لم يقم الفلسطينيون أنفسهم بمراجعة سياساتهم. 
إذا افترضنا مثلاً، أن الفلسطينيين يرغبون أن تقاطع الدول العربية إسرائيل وأن تطرد ممثلي كل الدول التي تعترف بأن القدس عاصمة لإسرائيل، فإن من الغباء الاعتقاد بأن هذه المطالبة ستلقى آذناً صاغية من العرب الرسميين، ما لم يقطع الفلسطينيون علاقاتهم بإسرائيل ويطردوا ممثلي تلك البلدان.
في السياق نفسه، لا يمكن الحديث عن مقاومة شعبية يمكنها أن تحرك الشارع العربي الراكد ليفرض على حكام دوله مناصرة القضية الفلسطينية إذا استمر التنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل.  
بشكل مختصر السياسات الفلسطينية سهلت على العرب الرسميين ما يقومون به اليوم من لعب دور الوسيط أحياناً والضاغط أحياناً أخرى على الفلسطينيين.
قد يكون من المفيد التذكير بأن الوضع الراهن أيضاً سببه تخلي العرب الرسميين ومعهم القيادة الفلسطينية عن فكرة التفاوض مع إسرائيل ككتلة واحدة والقبول بما تريده إسرائيل من مفاوضات ثنائية. 
في البداية تكرم عليهم الرئيس السادات بعقد صفقة سلام أحادية مخرجاً مصر من الصراع العربي الإسرائيلي في العام 1978. وبعدها تكرم عليهم بقية العرب بالدخول في مفاوضات أحادية في مؤتمر مدريد في العام 1991. 
ثم أساء الفلسطينيون لقضيتهم ولأنفسهم بقبول المفاوضات الثنائية السرية وتوقيع أوسلو، مما دفع العرب الرسميين أكثر باتجاه موقف الحياد في هذا الصراع. 
الآن ربما ينتقل العرب الرسميون صراحة من موقف "على مسافة واحدة من أطراف الصراع" إلى موقف "نحن أقرب إلى إسرائيل ومصالحنا معها أكبر من تلك الموجودة مع الفلسطينيين".
هل ينتبه القادة الفلسطينيون لذلك ويمتلكون الجرأة لوضع خطوط حمراء من جانبهم في علاقتهم مع إسرائيل حتى يكونوا على الأقل قدوة "للعرب الرسميين" أم سيدفنون رؤوسهم في الرمال ويستمرون في محاولة الجمع بين التنسيق الأمني والدعوة للمقاومة الشعبية في الوقت نفسه؟ هذا سؤال قد تجيب عنه الأيام القادمة.