المثقف بين التبعية والتشويه..محمود عساف

الجمعة 18 مايو 2018 10:25 ص / بتوقيت القدس +2GMT
المثقف بين التبعية والتشويه..محمود عساف



ثلاثة أيام بلياليها وأنا أحاول جاهداً أن أركز في محتوى هذا المقال، قدحت زناد العقل عشرات المرات، وفي كل مرة كانت الطلقات طائشة، شحذت الهمة مراراً وتكراراً لعلي أجد مستقراً لوقع القلم، لكن في كل مرة كانت محاولاتي كسيحة، إلى أن سيطرت على دقات القلب موجة الوجع المعتاد  الذي يأبى المغادرة دون توضيح للأسباب .

حاولت أن أحلل أزمة البناء الاجتماعي، وهشاشة التحول في مبادئ الناس ومواقفهم، ومكنون التغيير المفاجئ الذي قد يعتري أحدهم أو إحداهن دون إبداء أسباب أو وضوح مبررات، فتوصلت إلى أن الأزمة ليست قائمة في الفكر فقط، بل إنها تعبير عن أزمة بناء مجتمعي أو بالأحرى (تأخر قيمي) لا يستند إلى العقل بقدر ما يستند إلى الحاجة في الادعاء وتمثيل القيم،  في دور المثقف أو الأكاديمي أو الباحث أو ابن النخبة.

الأمر الذي دفعني إلى الجزم بفشل هذه الأدوار في عملية الإصلاح أو التوجيه أو تربية الأجيال على التفكير الناقد، وانحسارها في الوظائف المنوطة بها المتمثلة في ترسيخ مبادئ المسايرة ، والخوف من المغايرة باعتبارها سبب انقطاع الحاجة أو المنفعة المؤقتة على الأقل .

ولو اعتبرنا جدلاً أن كل من المعلم وعضو هيئة التدريس والمثقف من المثقفين رغم أنه ليس من الضروري أن يكون المتعلم مثقفاً، نجد أن أولى إشكاليات هذا التأخر القيمي بشكل عام وللمثقفين بشكل خاص تتعلق بالعلاقة بين المثقف والجمهور، فقد تجد انفصالاً شبه تام بين من يطرح (سلعاً ثقافية) وبين ما هو مجبر على استهلاكها، فيقوم بدور وظيفي لتأدية مهمة وفق معايير حددتها له السلطة (أي كان نوعها) للحفاظ على الموروث الذي يخدم مصالحها، ومن هنا يتكون الوعي لدى الجمهور متراوحاً بين الغياب العقلاني التام للمصلحة العامة والمستقبل، والحضور غير الواعي بتصنيف السلع الثقافية، فتجد من يستهلك بوعي، بتلقائية، ومن يستهلك بشكل أعمى في إطار التبعية. وهذا إن دل على شيء فهو يدل على غياب دور المحاضن التربوية واندثار أثرها في تشكيل العقلية الناقدة الباحثة عن الحقيقة .

وربما تختص الإشكالية الثانية بالعلاقة بين الثقافة والسياسة أو بمعنى آخر، العلاقة بين المثقف والسلطة من جهة وبين المثقف والحزب من جهة أخرى، إذ يدل واقع الأحداث في المجتمع على التناقض والتأرجح الأيديولوجي للمثقف تبعاً لما تحققه المواقف من مزايا أو مصالح أو مراكز للمثقف داخل إطار السلطة ذاتها أو الحزب .

قد يتهمني البعض بالتعميم، والتجني على بعض المغايرين، وهذا حقهم، وأنا أول المقصرين، لكني لست بصدد اتهام الأشخاص بقدر إظهار القصور في الأداء، والدليل على طرحي ما آلت إليه طبيعة العلاقة بين الناس من حيث استباحة كل ما يمكن استباحته من أجل الغايات الشخصية، وظهور مدعي الثقافة الذين لا يختلف عاقلان على عجزهم، لكنهم تصدروا شاشات التلفاز للحديث والتغني بقضايا قد لا تنصف الناس أو العوام.

يرى المنطق أن المثقف هو نتاج للبيئة الاجتماعية التي تعيش فيها، وهو نتاج للأيديولوجيات السائدة في عصره، ولما كان المجتمع يحيا حالة من الهلامية وتداخل المصالح، فإن حالة المثقف ستتسم بالتنوع والتشتت والتشوه وعدم التساوق، وعليه ستبقى أزمة المثقف أزمة المجتمع نفسه. ولعل أول خطوات البحث عن الحل تكمن في تحديد مصطلحي الثقافة والمثقف، فثمة اختلاف بين من يحمل الفكر ومن يبدعه، بين من ينقل تراث غيره، ومن يبدع خلقاً في تراثه، بين من يستشعر مشكلات مجتمعه ومن يتوهم تماثل مشكلاته مع مشكلات غيره بين من يقف متفرجاً من قضاياه ومن يسهم بفعالية في تجاوزها، وبين من يستهلك المعرفة ومن ينتجها ويشاركها.

ولما كان من البديهي أن عدم القدرة على التفرقة بين هذا وذاك، يمثل صورة من صور التخلف الحضاري على كل المستويات ويكرس نماذج المطلبين والمنافقين، وجب نبذ كل من يستغل الثقافة لتمرير أفكاراً تحد من استقلالية الفكر وحرية الإرادة، ومن يستغل حاجات الناس ليفرض واقعاً أيديولوجيا لا يخدم إلا مصلحته .