مسيرة العودة ومذبحة النكبة.. وقفة للمراجعة والتأمل .. د. وليد القططي

الثلاثاء 15 مايو 2018 02:59 م / بتوقيت القدس +2GMT
مسيرة العودة ومذبحة النكبة.. وقفة للمراجعة والتأمل .. د. وليد القططي



استمعت إلى آخر نشرة أخبار مساء الاثنين بعد يوم عاصف من مسيرة العودة ومذبحة النكبة، كان عدد الشهداء قد ارتفع إلى اثنين وخمسين شهيداً والجرحى قد اقترب عددهم نحو ثلاثة آلاف جريح، نمت بعد منتصف الليل بصعوبة متجاوزاً سقف السهر عندي بأكثر من ساعتين، واستيقظت مُبكراً وتصفحت المواقع الإخبارية الفلسطينية لأجد أن عدد الشهداء قد وصل إلى ثمانية وخمسين شهيداً، وشاهدت بعض صور الشهداء لا تعرّف ملامحهم وأرى تفاصيل سحناتهم، وأطّلع على قصصهم الإنسانية بعيداً عن الأرقام المجردة والمشاعر الجافة إيماناً مني بأن وراء كل اسم شهيد إنسان وحياة بأكملها قد توّقفت وأسرة قد فُجعت وتغّيرت مجرى حياتها وربما دُمرّت... خرجت من بيتي ذاهباً إلى عملي رغم إعلان الإضراب وفي الطريق فتح السائق مذياع السيارة على نشرة أخبار السابعة صباحاً فإذا بعدد الشهداء قد زاد اسماً كان هذا الاسم هو للطفلة الرضيعة ليلى الغندور متأثرة باستنشاق الغاز أثناء تواجدها مع ذويها في معسكر العودة شرق مدينة غزة.

قبل اسبوع من مذبحة النكبة كتبت مقالاً بعنوان (العودة الكبرى أم كسر الحصار.. ماذا نريد؟) جاء في هذا المقال "...وبعد أكثر من شهر على بدء الفعاليات والاقتراب من ذروة الفعاليات في يوم النكبة من المفيد أن نراجع خطواتنا ونحدد موضع أقدامنا والتوّقف لحظة للتفكير كي نواصل المسيرة بخطا ثابتة وواثقة... ومن المفيد تحديد سقف زمني غير مُعلن لها تكون فيه الرسالة قد وصلت للاحتلال ولكل من يهمه الأمر، كي لا يكون الثمن المدفوع فيها أكبر من الضروري واللازم" وكتب آخرون في هذا الإطار، ولكن على ما  يبدو أن أصحاب القرار ليس لديهم وقت للقراءة وإذا قرأوا "يطنشون" فثرثرة الكُتّاب لا تستحق الاهتمام ومقالاتهم لمجرد ملء الفراغات في الصحف الورقية والالكترونية!!. واليوم أزيد على ما كُتب في المقال السابق إذا  ما أُريد لهذه الفعاليات أن تتواصل من الضروري أن تكون كما أُعلن عنها منذ البداية جماهيرية سلمية ولضمان ذلك من الأفضل توجيه وإرشاد الشباب إلى عدم الاقتراب من السلك الشائك وإن لم يكفِ ذلك فلماذا لا يتم منعهم بالطرق التي تُمنع فيها المظاهرات وسط غزة؟

ومن المفيد مراجعة وتأمل السقف الذي وُضع للجماهير من بعض المُنظّرين والخطباء في معسكرات العودة وغيرها الذين رفعوا سقف أهداف مسيرة العودة- بخلاف الخطاب الإعلامي الرسمي الذي حددته الهيئة الوطنية العُليا المُشرفة على المسيرة- فأوهموا الجماهير الثائرة أن بإمكانهم العودة الفعلية إلى أراضيهم داخل الأرض المُحتلة عام 1948، وأن بإمكانهم اختراق الحدود، وحرّضوا الشباب المتحمّسين على اقتحام السلك والالتحام بالحجارة وبالأيدي مع جنود الاحتلال... وكانت النتيجة هذا العدد الكبير والهائل من الشهداء والمُعاقين والجرحى شكّل صدمةً كبيرةً لأهالي غزة سترافقهم طويلاً وستجعل البعض منهم يتساءل إن كان بالإمكان أن يكون الثمن الذي دفعناه من أرواح أبنائنا ودماء شبابنا أقل من ذلك، وهذا لا يعني بالطبع إعفاء العدو المجرم من مسؤوليته عن مذبحة النكبة ولكن يعني أن نقف وقفة مع أنفسنا للمراجعة والتأمل في أدوات ووسائل وتكتيكات مسيرة العودة الحالية.

والدعوة لعدم دفع ثمن باهظ في فعاليات مسيرة العودة لا يعني أن أرواح الشهداء قد ارتقت إلى بارئها سُدى، وأن دماء الجرحى قد سالت عبثاً، وأن تضحيات الثوار قد ضاعت هدراً، وأن عذابات المفجوعين والمكلومين والمجروحين قد ذهبت بدون جدوى... وإلاّ لكانت كل أرواح الشهداء ودماء الجرحى وتضحيات الثوار وعذابات المفجوعين منذ أول التاريخ وحتى الآن كانت بلا جدوى، وهذا يُخالف منطق الثورة وسُنن التغيير التي تؤكد على أن النضال الوطني فعل جماهيري تراكمي وعمل شعبي تواصلي، ومسيرة العودة وفق هذا المفهوم حلقة من سلسلة النضال الوطني الفلسطيني المستمر منذ وعد بلفور المشئوم بقيام دولة (إسرائيل) كتجسيد للمشروع الصهيوني على الأرض الفلسطينية وانتهاءً بمسيرة العودة تتكامل مع كافة أشكال النضال الوطني والمقاومة الشعبية الأخرى- السلمية والمسلحة – لتصب جميعها في مسيرة المشروع الوطني الفلسطيني الهادف إلى التحرير والعودة والاستقلال.

وفي هذا الإطار – من الجهة الأخرى- فإن مسيرة العودة قد ساهمت في تحقيق أهداف النضال الوطني الكُبرى المتمحّور حول التحرير والعودة، فقد ثبّتت حق العودة كحق طبيعي وتاريخي وقانوني للشعب الفلسطيني، ورسّخت ثقافة العودة في عقول ووجدان الجيل الفلسطيني الصاعد، وعمّقت القلق الوجودي للكيان الصهيوني الذي لم يُفلح في التخلّص منه رغم غطرسة القوة وأوهام النصر، وأكدت على أن  سبعين عاماً من قيام دولة (إسرائيل) لم تُفلح في أن تجعل الوهم حقيقة ولم تفلح في تحويل الشعب الفلسطيني إلى هنود حمر جدد.

ومن جانب آخر ما أكدته مسيرة العودة أن أثني عشر عاماً من الحصار وما تبعه من عقاب لم تُفلح في دفع الشعب الفلسطيني إلى رفع الراية البيضاء والاستسلام لإرادة العدو؛ بل أكدت على أن هذا الحصار الظالم والوضع القاسي في قطاع غزة لا يُمكن أن يستمر، فالأمر ليس مسألة رفاهية زائدة بل مسألة حياة أو موت وقبل كل ذلك مسألة كرامة وأن هذا الوضع غير قابل للاستمرار ولا بد أن ينكسر الحصار ويُرفع العقاب الآن وليس غداً اليوم قبل الغد؛ وإلا فعلى العالم أن يتحمل مسؤولية ما قد يحدث من مآسي وكوارث قادمة على الشعب الفلسطيني في غزة.