النسّاخون الجدد.. وشعراء القبيلة.. د. محمود عبد المجيد عساف

الثلاثاء 24 أبريل 2018 10:01 م / بتوقيت القدس +2GMT
النسّاخون الجدد.. وشعراء القبيلة.. د. محمود عبد المجيد عساف



عقب كل خيبة، وبعد كل دوار يصيبنا في أنظمتنا السياسية أو الاجتماعية، نفطن متأخراً أنه كان من الواجب الانتباه جيداً إلى موروثنا الثقافي، وإلى هزائمنا الداخلية التي تسممت بفعل أقلام لم يكن هدفها إلى المصلحة الشخصية أو المساهمة في تطبيق أجندات خارجية .

فالثقافة التي كانت تتلخص بوقف، ومجموعة من الأفكار البناءة والشعارات المواجهة للغزو الفكري، لم تعد كذلك، والمثقف الذي كان يمثل الفكر والصياغة والحل بنظر الناس وبنظر نفسه لم يعد كذلك بعد أن استقطبته النخب السياسية، في ظل حالة العوز والفقر والبطالة الصريح منها والمقنن، وبعد أن نشأت الأحزاب النخبوية الباحثة عن السلطة، واتسعت دائرة التكنولوجيا، وتشعبت منصات الإعلام، وتعددت أنماط التعليم، واختلط الحابل بالنابل، إلى الحد الذي طفا على سطح الواقع المرير ما يسمى بوهم الثقافة أو دعاة الثقافة الذين حصروا دورهم في النقل عن غيرهم أو الكتابة بدافع الأجر، أو تمثل دور شاعر القبيلة الجديد الذي يوهم النفس بالقدرة على الكتابة، بمجرد صورة خاصة على الفيس بوك وفي يده سيجارة وعلى مكتبه كوب من القهوة الفاخرة، أو شعور داخلي بالغيرة دون مخزون لغوي.

وهنا يستحضرني ما رواه أبو حيان التوحيدي في (البصائر والذخائر) أن الاسكندر المقدوني غضب على شاعر فأقصاه وفرق ماله في الشعراء، فقيل له: أيها الملك: بالغت في عقوبته، قال: نعم، أما إقصائي إياه فلجرمه، وأما تفريقي ماله في أصحابه الشعراء فلئلا يشفعوا فيه" . ولأن الواقع أقسى مما كان عليه الحال زمن الاسكندر المقدوني فلم يسبق للمثقف أن وضع على المحك كما يحصل الآن، في ظل التحولات التي تشهدها المنطقة، ولم يسبق لفكره أن تعرض للاختبار وامتحان المصداقية كما يتعرض له الآن.

ولأن المثقف الحقيقي لا يساوم على قلمه، ولا ينسخ أفكار غيره، مهيأ نفسياً وعقلياً لحمل رسالة مفادها التحرر من القيود، والتعافي من أمراض التعصب والحزبية، ولأنه من الباحثين عن الحقيقة، ولأن الثقافة الآن طغت عليها الصورة حتى صارت تعرف بها، فإننا الفلسطينيين نحمل ذنبنا، لأننا قد نكون استهلكنا ثقافة غيرنا، ولم نلتفت جيداً إلى دور ثقافتنا الخاصة في نصرة قضيتنا، فكان النساخون منا ودعاة الثقافة، وساهم الفساد الإعلامي في تلميع من تعود الكتابة على حساب الكتاب الحقيقي، وأصبح لكل مدعي كتابة أو ثقافة جمهوره الخاص على مواقع التواصل الاجتماعي. فتشوهت الصورة حول القضية الفلسطينية، ودارت الشكوك حول الحقوق والثوابت الوطنية التي لا تسقط بالتقادم،

ولعل هذا ما فرض على المثقف الحقيقي العديد من التحديات،  ووضعه أمام مجموعة من التناقضات منها: العزلة التي ستفرض عليه إذا حاول تغيير الوضع القائم وكان ضد النظام السياسي، والجمع بين ولاءين: ولاء تقليدي لجماعته أو حزبه، وولاء إلى الطبقة التي ينتمي إليها، ومنها التناقضات ما بين المبادئ المعلنة والسلوك الممارس لتحقيق مصلحة أو لقمة عيش مرة، وذلك نتيجة لتردي المناخ الديمقراطي.

وهنا .. يتركز الدور المطلوب من المثقف في ممارسة النقد للأساطير الاجتماعية والسياسية السائدة في المجتمع، ونعني بهذا النقد، نقد السلطة والمجتمع على السواء، وليس السلطة- هنا- سلطة الدولة فقط، بل نقيضها السياسي أيضاً كالمؤسسات الحزبية المعارضة، بسبب حيازتها سلطة الرأي العام ومشروع سلطة أو حيازة دولة، بحيث يأخذ النقد وجهتين: وجه تفكيك مطلقات السلطة وأفعالها القهرية، ووجه تعرية القاع المتخلف للنظام الاجتماعي والمشهد الثقافي .

        ولعل تعرية القاع للمشهد الثقافي في المجتمع الفلسطيني أخطر المهام والأوجه نظراً لتردي الأوضاع الاقتصادية وتداخل المصطلحات وتعارض القيم والترويج للثقافة الاستهلاكية لبعض النساخين الجدد كطرق للخروج من الأزمة ومحاصرة أصحاب الكلمة الحرة بحجة تشجيع المبدعين.

إنه التخريب يا سادة.. التخريب الذي يلمع السطح ويفسد العمق، الذي يفرغ الثقافة من مضمونها الثوري، ويعطي الأولوية للشعارات على حساب الفكر، ويمجد الأشخاص على حساب أفكارهم وممارساتهم، إنه التطبيل لعمرو على حساب زيد، والدعوة للصلاة وراء عبدالله على حساب تكفير عبد القدوس .