مسيرة العودة الكبرى ومنهج اللاعنف: العين تناطح المخرز .. د. أحمد يوسف

الإثنين 02 أبريل 2018 01:28 م / بتوقيت القدس +2GMT
مسيرة العودة الكبرى ومنهج اللاعنف: العين تناطح المخرز .. د. أحمد يوسف



ونحن نمارس اليوم حقنا في التظاهر والاحتجاج السلمي عن جدارة واقتدار من خلال مسيرة العودة الكبرى، نتذكر من سبقونا من شعوب الأرض، الذين رووا بدمائهم شجرة الحرية ونيل الاستقلال.. نعم؛ هناك من حمل السلاح وواجه المستعمر الغاصب حتى أخرجه من أرضه، كما شاهدنا في الجزائر وڤيتنام وأفغانستان، وهناك من اعتمد منهج اللاعنف بعد أن وصلت المواجهات المسلحة لطريق مسدود، بسبب فارق القوة وأدوات البطش والتأييد، كما طالعنا ذلك في الهند وجنوب أفريقيا، وبعض دول أوروبا وأمريكا اللاتينية، وكان لكل شعبٍ أسبابه وقناعاته في المنهج الذي لجأ إليه.

وفيما نحن نشهد تجليات مسيرة العودة الفلسطينية، تتوارد الكثير من الأسئلة التي تثيرها النخب ويطرحها الشارع، من حيث الجدوى والهدف وفرص النجاح والتمكين، وفي إمكانية جلب انتباه العالم والمجتمع الدولي لقضيتنا، وحجم المعاناة التي يتعرض لها شعبنا، جراء الاحتلال والحصار الظالم، والذي نجهد من خلال هذه الفعاليات السلمية لمسيرة العودة في تحريك أصحاب الضمائر حول العالم لنصرة قضيتنا وشعبنا، وتذكير المنظمات الأممية بحقنا الذي ما زلنا نطالب به، بالرغم من حالة التجاهل والتهميش.

إن هناك من يسأل إذا كانت مثل هذه المسيرات السلمية ستعيد الوطن؟ وإذا ما كانت بديلاً عن المقاومة المسلحة؟ وهل هي "استراحة محارب" لحين تغير بعض معطيات الصراع القائم في المنطقة، والتي بسببها تبددت قواها، وانشغل الجميع بمعارك جانبية، أذهبت ريح عافيتها وأضعفت شوكتها؟ وهل هذه الأساليب التي مارستها شعوب أخرى محتلة أجدت نفعاً، ويمكن الاعتماد عليها والاستفادة من خلاصة تجاربها في هذا المجال؟ وما هي "فلسفة اللاعنف"، ومدى جدواها في صراعنا مع المحتل الإسرائيلي الغاصب؟

لا شك أن هذه الأسئلة هي تساؤلات مشروعة، وخاصة في ظل ثقافة فلسطينية لا تعرف خلال صراعها مع هذا المحتل الغاصب إلا البندقية، ولا تعقد على غيرها في ساحات الوغى بديلاً.. صحيحٌ؛ أن هناك من الفلسطينيين من مارس ثقافة اللاعنف، ولكنه جوبه بكل وسائل العنف الإسرائيلي، وصمت عالمي يستفز الحجر للرد والعمل بمبدأ: "لا يفل الحديد إلا الحديد".

فلسفة اللاعنف: النهج والممارسة

لعل الكثير منا يتذكر ذلك الناشط الأمريكي من أصول فلسطينية، والذي حاول خلال الثمانينيات توظيف فلسفة اللاعنف، ولكنه جوبه بأساليب عنفية إسرائيلية لشطب فلسفته كأداة من أدوات النضال في مواجهة الاحتلال وسياسات الأبارتهايد الإسرائيلية، حيث إن الممارسات العنصرية وأساليب القمع العسكرية كانت تدفع الفلسطينيين للرد العنيف أحياناً، والذي تتخذه إسرائيل كذريعة لتبرير سياسة القتل وارتكاب المجازر بحق أبناء شعبنا.

من أين جاءت فلسفة اللاعنف في ثقافة الشعوب والأمم؟ وهل هذه الفلسفة تجدي مع الاحتلال أم أنها فقط أساليب لمواجهة الأنظمة المستبدة؟ وهل تجربة المهاتما غاندي ونلسون منديلا ومارتن لوثر كنج تكفي لإثبات نجاعة مثل هذه الأساليب في تاريخنا المعاصر؟

لا شك أن مدارس وأكاديميات قامت اليوم لتدريس هذه الفلسفة، مثل "أكاديمية التغيير" في لندن وڤينا، والتي أصبح لها مناهج ومنظِّرين في الشرق والغرب، ولكن القناعة بفعالية أساليبها ما تزال موضع تساؤل وحوار بين النخب السياسية والفكرية، وخاصة على ساحتنا الفلسطينية.  

يشير المحامي جونثان كُتَّاب إلى أن النضال الشعبي له عدة مزايا إذا ما قورن بالكفاح المسلح، والتي يجدر بنا استيعابها والاقتناع بها كفلسطينيين كي يصبح هذا النوع من الكفاح خياراً استراتيجياً، وليس فقط حالات خاصة تمارس هنا أو هناك، وإنَّ أول هذه المزايا هي أن النضال الشعبي متاح لجميع الفلسطينيين نساءً ورجالاً، أطفالاً وشيوخاً، بينما الكفاح المسلح - تقليدياً - هو حكرٌ على عدد قليل نسبياً من الشباب الذكور المدربين على حمل السلاح والمنظمين في فرق أو خلايا مسلحة، وقد أتقن الاحتلال على مدى السنين أساليبه في اختراق تلك الخلايا وعزل أفرادها، إما بالسجن أو الاغتيال والمطاردة، عن البحر الشعبي الذي يسبحون فيه كالسمك. كما وتمكن من عزلهم جغرافياً عن مصادر تزويدهم بالسلاح والذخيرة ومعسكرات التدريب، ومن تشويه سمعة نضالهم البطولي ووسمه بالإرهاب. أما النضال الشعبي فهو يشمل ليس فقط بضعة آلاف من المقاتلين وإنما مئات الآلاف، بل الملايين من أفراد الشعب الذين لا يلزمهم السلاح والذخيرة، وإنما الإرادة والفكر والإيمان والشجاعة التي لا يستطيع العدو مصادرتها.

مدرسة اللاعنف: جين شارب المنظِّر والفكرة

ارتبط اسم د. جين شارب بالكتابة والتأصيل العلمي في الموضوعات الخاصة بالكفاح السلمي، وقد استقت من كتاباته العديد من التحركات المناهضة للحكومات حول العالم.. يقول د. شارب إنه استمد أفكاره من دراسات متعمقة لحركة مهاتما غاندي في المقام الأول، ومن الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي هنري ديفيد ثورو، وإن كان تأثره بثورو أقل. كما يذكر العديد من المصادر التي تأثر بها في كتابه الصادر عام 1973، بعنوان "سياسة الحراك السلمي"، ويقدم في كتابه تحليلاً سياسياً عملياً عن الحراك السلمي كوسيلة لممارسة القوة في فترات النزاع. ومن أهم الأفكار التي يطرحها د.شارب هو أن السلطة ليست أحادية ثابتة، أي أنها ليست أمراً لا يمكن انتزاعه من أصحاب السلطة، ولكنه يرى أن السلطة السياسية، أي سلطة الدولة، بغض النظر عن طبيعة تنظيمها، هي نابعة في المقام الأول من المواطنين فيها. وهو يرى أن أي قاعدة للسلطة إنما هي قائمة على طاعة المواطنين لأوامر الحاكم أو الساسة، فإن امتنع المواطنون عن الطاعة، ففي هذه الحالة يفقد الحاكم سلطته. وقد نجح د. شارب في عرض منطقي لكتابه، والذي صدرت عنه طبعة جديدة عن مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان "المقاومة اللاعنفية: دراسات في النضال بوسائل اللاعنف"، والكتاب يدعو إلى اعتماد وسائل وبدائل حضارية أخرى، مثل: كفاح اللاعنف والانتفاضة والنضال بلا عنف وبشكل مرادف للقوة، ولكن بالأساليب السلمية، لسهولة شيطنة أي جهة معارضة ووصمها بالتطرف والإرهاب!!

ما هي تكتيكات اللاعنف؟ وكيف يعمل اللاعنف؟ ولماذا اللاعنف؟ وما هي الأساليب والآليات؟ هذه كلها موضوعات تمَّ تناولها فيما كتبه د. جين شارب في العديد من الكتب التي أصدرها، والتي أصبحت مرجعيات علمية في هذا المجال.

وعليه؛ فإن د. شارب يستعرض في فلسفته اللاعنفية الأساليب المتاحة وتكتيكات العمل في البيئات المختلفة، مع الأخذ بعين الاعتبار تباينات الظروف السياسية والثقافية والجغرافية، فالحالة الفلسطينية كنموذج تحتاج إلى استراتيجية أوسع ومختلفة مع إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل المحتلة للأرض، والمغتصِبة لحقوق شعب على مدى سبعين سنة.

لذلك، فإن التصنيفات التي طرحها د. شارب تبدو مختلفة عن أفكار امتهنتها شخصيات فكرية عالمية، مثل: ليو تولستوي وليخ فاليسا أو حتى ألبرت آينشتاين وآخرون، والسبب هو أن الأزمة الفلسطينية شديدة التعقيد، وذات ارتباطات عالمية، وللطبيعة الصهيونية نفسها التي تميل إلى التطرف إلى أقصى اليمين والعنف.

يشير المحامي الفلسطيني جونثان كُتَّاب إلى ضرورة أن نفهم بأن "النضال اللاعنفي" هو مجموعة من المفاهيم والمواقف، كما أنه استراتيجية وتكتيكات متكاملة ذات منطق خاص بها، وهو لا يأتي تنازلاً عن حق الشعوب المضطهدة في الكفاح المسلح ضد من يستعمرونهم ومن سلبوا أرضهم، فهذا الكفاح المسلح هو حق شرعي وفق القانون الدولي،  وإنما هو خيار استراتيجي يختاره الشعب الفلسطيني لقناعته بأنه وسيلة ناجعة وفعالة ومتاحة في ظل ظروفه الموضوعية الراهنة؛ ولأنه يلائم احتياجاتنا، حيث إنه ينقل المعركة من المواجهة العسكرية، حيث يملك العدو التفوق الواضح في السلاح والتدريب والإمدادات والسيطرة على الأرض، إلى مواجهة معنوية من نوع آخر، قوامها الإيمان والقيم والأخلاق والقانون والشجاعة والاستعداد للتضحية وتجنيد التضامن والقوة الداخلية، اعتقاداً منَّا بأنه لنا في تلك المواجهة أفضلية واضحة على العدو الغاشم، الذي يستند بالدرجة الأولى إلى قوته العسكرية وبطشه المسلح.

إن بيت القصيد فيما ذكره جونثان كُتَّاب، وما نحن على قناعة تامة به، هو أننا أبناء هذا الوطن لنا حق سليب لن نتنازل عنه، ولنا مطالب مشروعة لن نتخلى عنها، ومهما طال الزمن أو قصر فلن تغيب مشاهد هذا الوطن المحتل عن عيوننا، وأن أطفالنا وأحفادنا هم اليوم شهود على ذلك، وأن تحركات يوم الأرض ومسيرة العودة ستُمثل - كما يقول د. مصطفى البرغوثي - نقطة تحول في تصاعد المقاومة الشعبية الفلسطينية، وذلك بعد أن توحدت كافة قوى المقاومة وأطراف الحركة الوطنية في تبني هذا النمط الفعال والمجرَّب من المقاومة من أجل الحرية واسقاط نظام الأبارتهايد العنصري الإسرائيلي.

مسيرة العودة الكبرى: الكابوس والقلق الصهيوني

إن مسيرة العودة الكبرى والتي جاءت انطلاقتها في ذكرى يوم الأرض وصولاً بفعالياتها المستمرة إلى ذكرى يوم النكبة الموافق 15 مايو القادم، والتي ستشهد اندفاعات قوية وموجات من الحراك باتجاه البلدات الفلسطينية المحتلة.. إن لمسيرة العودة الكثير من المعاني والدلالات التي عبر عنها د. أيمن اليازوري؛ الوكيل المساعد لوزارة التربية والتعليم، في تحليله لأبعاد الحدث على الفكر الصهيوني وثقافة الاحتلال، والتي أوضحها في النقاط التالية:

أولاً؛ إن الفلسفة الصهيونية تقوم على الفصل بين الإنسان الفلسطيني وأرضه، حيث يتم تشريد الفلسطيني واستبعاده، ومن ثم تخلُص الأرض لمستوطنيها الجدد من الصهاينة، أمَّا أن تنجح المقاومة الفلسطينية من خلال مسيرة العودة في إعادة الجمع بين المفردتين "الأرض والإنسان" بهذا الاحتشاد الفلسطيني على تخوم وطنهم السليب، لينظروه بعيونهم، فإن هذا السيناريو المزعج - للصهاينة - يُبطل الأسطورة، التي قامت على أساسها دولة الكيان الذي أشاع مقولة (أرض بلا شعب).

ثانياً؛ إن مسيرة العودة بالحسابات الوطنية تُعدُّ عملاً وطنياً رائداً، حيث استطاعت أن تجمع كل الفرقاء الفلسطينيين نحو شعار "فلسطين تجمعنا"، وبذلك أرسلت للعدو رسالة مفادها: إن كل محاولات شطب حق العودة باءت بالفشل، حيث إن المسيرة أثبتت أن كل الفرقاء الفلسطينيين لديهم العزيمة على الالتقاء على السياج الذي يفصلهم عن أرضهم، وهو ما يجسد فكرتي الوحدة والعودة اللتين احتدم حولهما الجدل، وإذ بمسيرة العودة تقدمهما بشكل منسجم ومتكامل.

ثالثاً؛ إن مسيرة العودة أوصلت رسالة قوية للمواطن الصهيوني القابع في حيفا ويافا والمجدل ويازور وبيت دراس مفادها: إن الصهاينة ليسوا إلا غُزاة محتلين، وليسوا بأصحاب حق، وأن أصحاب الأرض الحقيقيين ها هم يحتشدون على السياج المصطنع.. هذه الرسالة تغرس في عمق الوعي واللاوعي الصهيوني أنهم طارئون ومؤقتون، وأن أولئك الذين شُردوا إلى المنافي منذ 70 عاماً لم ينسوا الأرض والبيت، وها هم اليوم يحتشدون من جديد.. إن هذا المشهد يمثل تماماً إحساس اللص عندما يواجه بالمالك الحقيقي وصاحب الحق.

رابعاً؛ إن مسيرة العودة تأتي في سياقات زمنية يكثر فيها الحديث عن هجرة جديدة للفلسطينيين نحو الجنوب.. وهنا، فإن المسيرة تُسفر عن وعيٍ تامٍ لدى الفلسطينيين بأن هجرتهم الجديدة لن تكون إلا شمالاً باتجاه الأرض التي تركوها، وبذلك فإنها تضع حدَّاً لأساطير اليمين الصهيوني الأنجليكاني، التي تُعد صفقة القرن أهم تجلياتها.

ختاماً.. إننا ونحن ندعو لاعتماد ثقافة اللاعنف ضمن أدواتنا النضالية، والتشجيع على ممارسة أساليبها، فإن هذا لا يعني الاستسلام لجبروت العنف الإسرائيلي، ولكن وكما أشار القائد الليبي عمر المختار: "إن الظلم يجعل من المظلوم بطلاً، وأما الجريمة فلا بدَّ من أن يرتجف قلب صاحبها مهما حاول التظاهر بالكبرياء، حيث إن الضربات التي لا تقصم ظهرك تقويه، ولئن كسر المدفع سيفي فلن يكسر الباطل حقي.. وأضاف: إنني أؤمن بحقي في الحرية، وحق بلادي في الحياة، وهذا الإيمان أقوى من كل سلاح.. إننا نقاتل لأن علينا أن نقاتل في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة، وليس لنا أن نختار غير ذلك، ننتصر أو نموت.

كم أنا سعيد اليوم بأن هذه الفكرة التي نادينا بها منذ أكثر من عشر سنوات أصبحت - الآن - مقبولة لدى الكل الفلسطيني، بل وشرع الكل في التنافس للعمل على إنجاحها، ولم تعد الدعوة إليها تعني النكوص عن العمل المسلح، وما يتبع ذلك من توجيه الاتهامات لكل من يجرؤ على ذكر نضال اللاعنف والحراك الشعبي كسلاح يمكن توظيفه في رؤيتنا لمشروع التحرير والعودة.

باختصار: إن "فلسفة اللاعنف" بكل ما تعنيه من حِراكات سلمية على المناطق الحدودية هي اليوم أحد أدواتنا النضالية، التي تجمعنا كفلسطينيين بغض النظر عن انتماءاتنا الحزبية والفصائلية، وأن فعاليات مسيرة العودة ستبقى جهداً فلسطينياً خالصاً يوحد صفوفنا، ويعزز من قوة شوكتنا في حلق الإسرائيليين، وكشاهد على المظلومية التي لحقت بشعبنا، وستبقى عيون الصغار والكبار بالقرب من الحدود تناطح - بأفعالها وتحرشاتها السلمية - مخرز جيش المحتلين!!