حول ارتفاع معدلات الجريمة في قطاع غزة..د.عاطف أبو سيف

الإثنين 12 مارس 2018 08:57 ص / بتوقيت القدس +2GMT
حول ارتفاع معدلات الجريمة في قطاع غزة..د.عاطف أبو سيف



ارتفعت معدلات الجريمة بشكل كبير في قطاع غزة كما تشير الأخبار القاتمة التي يتم نشرها حول ذلك، ويصاب المرء بالصدمة من هول وبشاعة بعض الجرائم، وهو ما يتطلب تدخلاً وطنياً حازماً لوضع حد لحالة الإنهيار والإنحدار في القيم ولغياب السلم الأهلي والتضامن الإجتماعي. فمن المؤكد أن ثمة تزايداً واضحاً في عدد الجرائم وخاصة تلك المتعلقة بالقتل أو الانتحار أو الاعتداء على الآخرين ناهيك عن جرائم السرقة وما قد يترتب عليها من جرائم إضافية جانبية؛ لكن أكثر بشاعة. وهذا التزايد يمكن رده لأكثر من سبب وتفسير تذهب إلى أنه أكثر من تطور مجتمعي خلال السنوات العشر الماضية، لكن كل ذلك لا يُمنطق ما يجري ولا يجعل منه أمراً مقبولاً، كما أنه لا ينفي الحاجة لتدخل وطني صارم من أجل الحد من انتشاره. 
لقد كانت نهاية الأسبوع مأساوية. ففيما يمكن الخلود إلى الراحة في يوم الجمعة كانت الأخبار التي تنتشر تثير الفزع والقلق والإشمئزاز، فمن عملية قتل إلى انتحار إلى محاولة قتل ومحاولة سرقة. وكما يمكن التوقع فإن سرعة نقل المعلومات في الوقت المعاصر خاصة عبر الرسائل النصية ومواقع التواصل الاجتماعي المنتشرة تجعل من تداول مثل هذه الأخبار المأوساوية حدثاً عادياً. وربما ان مثل هذه العادية "المثيرة للشفقة" هي أحد أهم النتائج السلبية لتداول المعلومات على منصات السوشال ميديا، وهذا امر آخر ليس موضع مناقشته هنا. أخبار وقصص تروي بالكثير من التفاصيل، وفي بعض الأحيان بالقليل منها، ما يجري من جرائم، يبدأ الأمر بسطر صغير من مدونٍ شاهد بشكل مباشر الحدث أو انه سمع عنه من شاهد عيان كان لتوه قد شاهد الجريمة. ثم سرعان ما يتم عبر الدردشات العامة والبوستات المتلاحقة فك شيفرة القصة الغامضة. وبالطبع فإن المرء مرات يصاب بالفزع إذا تأمل حقيقة ما جرى من جريمة خاصة إذ انتبه إلى قسوة التفاصيل. وكل الجرائم قاسية بالتأكيد لكن ثمة تفاصيل تكشف بشاعة الروح البشرية ومدى ما يمكن ان تذهب إليه. وبشكل عام فإن المتابع لا يمكن له ان يهرب من كل هذا وهو يتابع بقلق ما يرد من معلومات إضافية. 
ظهور الجريمة ليس بالأمر الجديد، ولا هي بدعة ظهرت فجأة بين الناس. الجريمة موجودة منذ وجد البشر على هذه الأرض، وربما ليست قصص التاريخ الأول في الكثير منها إلا جرائم يرويها المنتصرون على أنها بطولات. والبشر بشكل عام نزاعون نحو العنف سواء بفطرتهم أو استجابة لما يتعرضون له من أحداث. ووجهة النظر التي نتبناها حول ذلك تنطلق من ضفة الفلسفة التي نقف عليها والمتعلقة بالطبيعة البشرية ضمن النسق الجدلي لعالمي هوبز وروسو. وإذا لم يكن وقوع الجريمة جديداً فإن تكرار الجرائم لا يمكن أن يكون أمراً عادياً. 
عموماً ولكن ان تنتشر الجريمة فإن الأمر لا بد أن يرفع ألف علامة  استفهام إلى ما وصلت إليه حالتنا الداخلية على أكثر من جهة.  فمن جهة ثمة انزلاق أخلاقي وقيمي كبير. هذا يحتاج لمعالجة كبيرة قبل أن يفقد المجتمع الضوابط القيمية. فإذا كانت الأمم الاخلاق ما بقيت فقد ذهبنا منذ زمن، وإذا كان ثمة قلاع يجب أن تتحصن فهي القلاع التي تكون صخورها القيم والاخلاق وأبراجها التسامي والتسامح. وفي الوقت الذي لا يمكن نفي هذه من مجتمعنا فإن ثمة حاجة لإعادة التاكيد عليها والعمل على إظهارها. هنا يبدو دور العائلة ضرورياً بشكل كبير خاصة أن الإنقسام البغيض للأسف (تحسروا بصوت مرتفع حتى تتألموا) مزق النسيج الإجتماعي، ولم تكن احداث حزيران السوداء إلا صورة بشعة عن المستقبل الذي وصلنا له. 
الضحية الأخرى في هذا الارتفاع المقلق في تعداد الجرائم في القطاع هي السلم الأهلي. لابد أن كثيرين قرؤوا الفاتحة على روحه منذ زمن، منذ حزيران 2007. عموما ومع ذلك فإن السلم الاهلى الضامن الحقيقي لتطور علاقات البشر ضمن قواعد الاحترام والمحبة بات مهدداً أكثر من ذي قبل في ظل عدم مقدرة الفرد الشعور بالأمان وهو يقرأ الأخبار المرعبة  في جزء منها والمحزنة في الجزء الآخر حول الجرائم ومحاولات الانتحار. دون استعادة السلم الاهلى وتشجيعه وتطوير مؤسسات وطنية تعمل على إحيائه وبعثه بعد أن داسته بساطير الإنقسام والجريمة التي تفشت بعد ذلك، فإن المجتمع سيظل رهين الخوف المتنامي والقلق المتزايد على حياة آفراده.
جزء كبير من مآسينا يتحمل وزرها الاحتلال، وهذا صحيح ويجب أن نواظب على تذكير انفسنا به لأن سرقة البلاد والمشروع الاحلالي والكولينيالي هو السبب الرئيس في غياب الدولة الناجزة التي تنظم حياة الناس بشكل سليم، ولكن أيضاً ثمة مسؤولية كبيرة تقع على عاتقنا. مسؤولية تتطلب كما أشرنا سابقاً استعادة السلم الاهل وتعزيز الأمن من خلال إعادة بناء المؤسسة الشرطية والامنية بعد المصالحة بشكل يضمن ضبط الحالة وشعور المواطن – مرة اخرى كل المواطنين- بان أجهزة الدولة للجميع وليست لحزب دون غيره، حتى يشعروا بالامان اكثر ويطمئنوا إلى  سلامتهم. مسؤولية تتطلب توعية المجتمع وتزويده بالمعلومات اللازمة التي تساعده في حماية نفسه من الإنزلاق في هاوية الجريمة او التأثر سلباً بانتشارها. 
أيضاً ثمة دور مهم للمنهاج المدرسي في ذلك. فالمدرسة التي يجب أن نبقيها بعيدة عن صراعاتنا الداخلية وتنافساتنا الحزبية وهي المنبت الحقيقي للأخلاق والقيم الراقية، وفيها يتم بناء هوية الطفل، والد الرجل الذي سيكونه، وفي فصلوها يتم صوغ الهوية الوطنية القائمة على احترام الآخرين واحترام المجتمع وتقاليد والدولة ومؤسساتها. هل نحن بعيدون عن هذا؟ من المؤكد أن ثمة مسافة بيننا وبين كل هذا وهي مسافة بحاجة لشجاعة حتى نعبرها ونقفز عنها. وما لم نقم بذلك سنظل نندب حظنا دون أن نقطع الجسر ودون أن ننتبه بأن لا طريق أمامنا.