الإسلاميون والإصلاح السياسي: بين منهجية الوعي وضرورة التكيف .. د.أحمد يوسف

الأحد 11 مارس 2018 12:09 م / بتوقيت القدس +2GMT
الإسلاميون والإصلاح السياسي: بين منهجية الوعي وضرورة التكيف .. د.أحمد يوسف



لعقدين أو ثلاثة لم يكن الإسلاميون مشغولين بتطلعات الحكم، وكانوا أقرب في تركيزهم لعمليات إصلاح المجتمع على مستوى التربية والأخلاق، إلا أن بعض التجارب الناجحة في التسعينيات ومطلع الألفية الثالثة، وخاصة فيما يتعلق بالانتخابات البرلمانية، والحضور الواسع لدعم الشارع لهم، تفتحت شهية البعض لإمكانيات خوض غمار الانتخابات الرئاسية.

ومع فوز الإسلاميين في تركيا عام 2002 وتصدرهم في الانتخابات البرلمانية بنسبة تجاوزت 34% وتشكيلهم الحكومة، ثم استمرار تعاظم هذا الكسب في الانتخابات التي تلت ذلك، وبنسب أعلى وتمكين أفضل، حتى بلوغ القمة في الانتخابات الرئاسية، ومجيء أردوغان للكرسي، الذي كان ممنوعاً على الإسلاميين منذ سقوط الخلافة في عام 1924، الأمر الذي شجَّع بعض التنظيمات الإسلامية على التعجيل بالمشاركة الواسعة في الانتخابات، ولكن دون إمعان نظر وتفكير عميق وتبصر في العواقب، فتعثرت خطاهم ولم يقدموا ما وعدوا به من الإصلاح والتغيير.

كانت تجربة الإسلاميين في الجزائر خلال التسعينيات، وبعد فوزهم الساحق في الانتخابات البلدية، وإمكانية تكرار ذلك في الانتخابات التشريعية، فرصة لكي نتعلم الدرس ونأخذ العبر، ولكن يبدو أننا كإسلاميين أخفقنا في ذلك، رغم مشاهد العنف والقتل وحجم الكارثة الإنسانية التي أصابت البلاد لعشرية كاملة.. لقد تركت تلك المحنة الدامية خلفها عشرات الألاف من القتلى، ومثلهم من المعتقلين والجرحى، وتسببت في تراجع المد الإسلامي سنوات إلى الوراء.

للأسف، كإسلاميين لم نقرأ التجربتين، واعتمدنا على من قادونا بحناجرهم، ورواياتهم البعيدة عن فقه الواقع ودرس التاريخ، وما يتطلبه ذلك من التفكير وإمعان النظر.

من الجدير ذكره، أن تجربة الإسلاميين في تركيا كان فيها الكثير من الدروس والعبر، ولكن - للأسف - لم نتدبرها نحن إسلامي المشرق العربي إلا متأخرين، ولم نتابع تفاصيل مشهد التكيف مع الواقع ومتطلبات الحكم، والتي بدأت مسيرتها مع انطلاقتهم عام 1969، من خلال تأسيس تنظيم "مللي قروش"، ذي الهوية الوطنية والصبغة الإسلامية بقيادة زعيمهم نجم الدين أربكان.. ثلاثة عقود من العمل الدؤوب والابداع المتميز، نجح فيها الإسلاميون في تقديم الكثير من الإنجازات للنهوض ببلدهم تركيا، وإعادة تموقعها بين الأمم.. لقد تقدم أردوغان ليكمل مسيرة ما بدأه أربكان.. نعم؛ اختلف الزعيمان، ولكن تركيا الدولة والوطن انتصرت، حيث كانت عملية التكيف والانفتاح على الآخر، والمرونة السياسية هي المدخل لاستمرار النجاح والحفاظ على الصدارة.

هذه التجربة لم يكلف الإسلاميون أنفسهم بدراستها ومعرفة أسرار التمكين فيها، فوقع التخبط والخلاف والمواجهات المسلحة، والتي كان بشيء من الحكمة والوعي بتجارب الآخرين تجاوزها والنجاة منها.

إن المسألة لم تكن معضلتها في كيف تفوز بالانتخابات، ولكن تجربة الأداء وولوج مؤسسات الدولة هي المحك الحقيقي، الذي يثبت جدارتك في الموقع، وأهليتك للحفاظ على دعم الشارع وحمايته لك.. وهنا - للأسف - تسكب العبرات، حيث أخفقنا كإسلاميين في إثبات جدارتنا وقدرتنا على تقديم النموذج والاستمرار في إمساك الخطام، وتحقيق تطلعات شعوب أمتنا في الإصلاح والحكم الرشيد. ولذلك، تراجعت ثقة الناس بنا كإسلاميين، والدليل على ذلك هو التراجع الحاصل في الانتخابات التي جرت في أكثر من بلد عربي، مثل: الأردن والجزائر وموريتانيا، وحملات العداء التي أخذت تستهدف شيطنة الإسلاميين واتهامهم بالتطرف والإرهاب، والمحاولات الجارية لشطبهم من معادلة الحكم والسياسة، كما شاهدنا ذلك في العديد من الأقطار العربية والإسلامية، وما جرى في العراق وسوريا وليبيا واليمن وبلدان أخرى هو الدليل على ذلك.

ولسنا - هنا - في سياق ظلم أحد، إذا ما قلنا بأن تجربتنا في فلسطين لا تبتعد كثيراً عما ذكرناه بخصوص الإسلاميين في أماكن عربية أخرى، وإن كانت تجربتنا لها خصوصيتها، وكان حجم التآمر عليها كبيراً.

الإسلاميون والسياسة: خطأ التقدير والممارسة

لعل من أفضل الكتب التي قرأتها - مؤخراً - حول حركات الإسلام السياسي بشكل علمي ممنهج، هو ما خطته يد الباحث الأستاذ أحمد دلول، المختص بشئون الحركات الإسلامية، حيث تناول في كتابه الموسوم (الإصلاح السياسي لدى الحركات الإسلامية: حركة الإخوان المسلمين في مصر مثالاً) تجربة حركة الإخوان المسلمين في مصر بالدراسة والتحليل. لا شك أن أجمل شيء في هذا الكتاب، هو تعاطيه في سرديته التاريخية المحطات التي تركت فسحة من التأمل والتدبر في مسار الإخوان على مدار ثمانين عاماً، وأنه نجح من خلال النتائج التي توصل إليها، والتوصيات التي تقدم بها، في إثبات قدرته على استشراف المستقبل، وأن يكون صاحب بُعد نظر في تقديم رؤية كان يجدر بالإسلاميين الأخذ بها والتعاطي معها، ولكن – للأسف – يأتي الفهم متأخراً لدى الكثير من الحركات الإسلامية، وإخوان مصر ليسوا بعيدين عن ذلك!! إن التوصيات كان فيها من الحكمة ما لو عمل بها الإسلاميون في مصر لما آلت الأمور لتلك المواجهات المفجعة عام 2013، وانتهت بهم من جديد للسجون والمعتقلات.

لقد كانت تجربة الإسلاميين مع الربيع العربي فرصة لإثبات رغبتهم في بناء نظام سياسي قائم على الشراكة السياسية والتوافق الوطني، لكن هدير الجماهير وطنين الحناجر غيَّب الرؤية، وأضاع البوصلة، فغرقت السفينة وطواها بحر الظلمات.

إسلاميو المغرب العربي: محاولة لصناعة مشهد جديد

فيما نحن نرصد التغييرات التي تجري في ساحة الإسلاميين، فإننا نجد أن هناك من تفهموا الدرس ووعوه، كما في المغرب، حيث يقود حزب العدالة والتنمية الإسلامي - بجدارة واقتدار- المشهد السياسي هناك، وحالياً في تونس التي يشارك فيها حزب النهضة الإسلامي مشهد الحكم والسياسة، وربما نشاهد - أيضاً - في المستقبل القريب حدوث ذلك في الجزائر وموريتانيا.

لقد أعجبتني القراءة المتقدمة لإخوان المغرب والتي تعبر عنها كتابات الأستاذين د. أحمد الريسوني، ورئيس الوزراء الحالي د. سعد الدين العثماني، والذي كان لي شرف التعرف عليهما وعلى أفكارهما منذ بداية التسعينيات، وكذلك إخوان تونس، والتي يعبر عن أدبياتها السياسية كل من الأخوين الأستاذ راشد الغنوشي؛ رئيس حركة النهضة، ونائبه الشيخ عبد الفتاح مورو.. ولعلي هنا في نقطة أو نقطتين أقدم بعض ما لهما من رؤية حول مسائل تتعلق بالحكم والمجتمع والعلاقة بين الدول.

تحدث الشيخ عبد الفتاح مورو في العديد من الحوارات التي شاهدناها على فضائية الجزيرة، مع الإعلامي - المتألق دائماً - أحمد منصور، والتي كانت تعكس فهماً إسلامياً متقدماً مبنياً على نظرية فقه المقاصد للإمام الشاطبي ومدرسة العالم الجليل الطاهر بن عاشور.. لقد قدَّم الشيخ عبد الفتاح في إحدى جلساته الخاصة مع مجموعة من شباب الإخوان أفكاراً تستحق أن تكون أرضية الوعي ومرجعية الرؤية لدينا كإسلاميين، وأنقل بعضاً منها، حيث تحدث بصراحة وجرأة، قائلاً: إن الإسلاميين لم يستطيعوا تقديم برنامجاً يتلاءم مع الواقع، ولم يفهموا واقع العالم الدولي في النواحي الاقتصادية والسياسية، وأن سبب إخفاقهم هو أنهم لم يقيموا المؤسسات؛ فالدولة قائمة على المؤسسات، كيف ستطعم الناس، وتُسيّر أمورهم، وتوفّر لهم الاحتياجات؟!! لم يستطع الإسلاميون - للأسف - تقديم سياسات اقتصادية واضحة، ولم يصنعوا النخب في الدولة. نعم؛ لقد أنشأنا نخبة خدمية، لتقصير المسافة بيننا وبين خصومنا، وهي ليست النخبة المنشودة، حيث إن جلَّ الذين يوجهون التيار السياسي هم مشايخ، لم يعرفوا من الإسلام إلا نصوصاً شرعية تتعلق بالعبادات والمعاملات، وليست هذه هي المعنية بتغيير وضعنا، وإنما القيم التي قام عليها الإسلام.. في الحقيقة، إن أصول إقامة الدولة وبناء المؤسسات مفقودة في أذهان كثيرٍ منَّا، ونحن نتصور أن المعرفة بتاريخ المؤسسات الإسلامية يساعدنا على إقامة المؤسسات المعاصرة، وهذا ليس صحيحاً.. لكننا - وحتى اليوم - ليس هناك في أذهاننا وعي بكيفية بناء الدولة، وبناء مؤسسات وطرائق التأثير فيها!! خذ مثلاً على كيفية التخطيط، ولا بأس أن نتعلم من غيرنا.. إن معظم المحامين في نيويورك هم يهود، وأن أغلب المدرسين في الجامعات الأمريكية التي تشتغل في علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية هم أيضاً من اليهود.. ألا يدل ذلك على أنهم على دراية بما يفعلون؟ فالذي يصنع الأنظمة هو الذي يضع الدساتير وأساليب الحكم وقوانين الانتخاب ومناهجه، وهو في النهاية من يربح المعركة.

لقد نصحتُ - كما نصح غيري - جماعة الإخوان في مصر بعدم الترشح للرئاسة، وأن يكتفوا بالبرلمان، ويتدربوا على الحكم دون استعجال.. وبعد عشرين سنة يمكنهم الترشح مسلحين بالخبرة انتخابات الرئاسة.. اليوم يدخلون البرلمان ويشاركون في البلديات ويتمرسون في مؤسسات الحكم، حتى وإن طالت بهم السنون، وكنت أتساءل: لماذا تتعجلون الحكم؟!.

إننا في حزب النهضة خرجنا من الحكومة ونحن أغلبية، ورجعنا ونحن أغلبية، كنا في الحكومة ولم نكن في الحكم.. نحن خيّرنا بين الدماء والحكم، فآثرنا مصلحة الوطن على مصلحة الحزب، وانسحبنا من المشهد السياسي، أما منصب الرئيس السبسي فهو تشريفي، ولا علاقة له بإدارة الدولة، إنما الحكومة هي التي تدير شؤون الدولة.

في الحقيقة، إن مثل هذا الكلام يوزن بماء الذهب، فهو ينطق بالحق وبه يعدلون.. أتمنى أن نتعلم من تجارب الإسلاميين في المغرب وتونس ومن بلدان إسلامية أخرى كتركيا وماليزيا وإندونيسيا.

أختم، وهنا بيت القصيد وحجر الزاوية فيما نرمي إليه، حتى يتسنى لنا الوعي بمتطلبات المرحلة من الانفتاح والمراجعات واحتضان الآخر، للحفاظ على ما تبقى من وجودنا تحت الشمس، كشريك فاعل تجاه مشروعنا الوطني، وألا نضطر تحت ضغط التآمر، والتواطؤ الإقليمي والدولي للانزواء، والانكفاء بعيداً عن دائرة الفعل والتأثير، حيث تتعالى اليوم وبشكل مقلق أصوات الأكلة على قصعة أمتنا، لإذهاب ريحها وكسر شوكتها. وعندئذ - إذا لم يقع الاستدراك - فلا ينفع الندم ولات حين مندم!!