«المثقفُ القلِق» ضد «مثقف اليقين»..د. خالد الحروب

الأحد 11 مارس 2018 10:29 ص / بتوقيت القدس +2GMT
«المثقفُ القلِق» ضد «مثقف اليقين»..د. خالد الحروب



«المثقف القلِق» هو التمثل الأكثر نضجاً للمثقف الناقد، فهو من ناحية امتداد له في منهجية النقد والتفكيك والتقويض، لكنه يختلف عنه باتصافه بسمتين أساسيتين: اللايقين واللاتمركز.
اللايقين يعني عدم التمسك الصارم بالأفكار سواء المُتبناة من قبله أو التمسك الصارم بنقده الأفكار التي ينقدها، والمحافظة على التحرر من اليقينيات.
أما اللاتمركز فيعني عدم الارتكان إلى زاوية (نظرية أو فكرية أو ابستمولوجية) ثابتة وجامدة في رؤية الأشياء.
اللايقين واللاتمركز يتيحان للمثقف القلق ديمومة ومرونة التنقل في المنطقة الرمادية بين الأفكار المتعددة من دون الاضطرار إلى «التيقن» التام بأيٍ منها، وديمومة الحركة بين زوايا النظر المختلفة من دون التجمد عند أيٍ منها أيضاً.
هذا الحراك المتواصل بين الأفكار وفي نسبيتها وعلى تخومها ومن دون السقوط في أسرها ينتج طاقة متواصلة، تعمل على شحذ عملية إنتاج الأفكار، سواء أفكاره هو أو أفكار الآخرين، وتطويرها وإبقائها دوما تحت شمس النقد والتحسين.
«المثقف القلِق والمُقلق» هو المثقف المهجوس بطرح الأسئلة الجديدة ومساءلة اليقينيات السائدة والانتفاض على ركود الأفكار حتى لو كانت أفكاره هو، وعدم الزعم في الآن ذاته بامتلاك الحقيقة.
ويمكن تعقل «المثقف القلق والمُقلق» بشكل جلي في مرآة نقيضه، أي «المثقف اليقيني الذي يدعي امتلاك الأجوبة، ويخضع لليقينيات الجمعية ولا يسائلها بل يعمل على تعزيزها.
المثقف «اليقيني» بالغ الحضور عربياً وتتنوع أشكاله وتحولاته، مكرساً يقيناً إيديولوجيا عقدياً، أم ثقافياً اجتماعياً، أم سياسياً سلطوياً.
على ذلك، المثقف «القلِق والمُقلق» هو النقيض الموضوعي لـ «المثقف اليقيني والموقِّن» (بتشديد وكسر القاف)، وهذا الأخير مفهومه وتعريفه أوسع من مفهوم وتعريف «المثقف الإيديولوجي» أو «المثقف الداعية» صاحب المشروع التبشيري.
المثقف اليقيني هو المثقف صاحب اليقين الراسخ والموقِن بفكرة أو إيديولوجية أو منظومة فكرية محددة وواضحة وذات جهوزية عالية ودائمة (وادعائية) في تقديم الأجوبة.
والمثقف اليقيني أو الموقِّن هو المثقف الذي يجتهد لنشر يقين ما، ويجتهد على إقناع من حوله بما يوقن به. على ذلك يمكن رؤية المثقف الإيديولوجي أو المثقف الداعية كمثقف «مُوقن» و»موقِّن»، لأنه يرى ويُوقن بأن خلاص مجتمعه أو مجموعته يكمن في تبني وتطبيق إيديولوجيا (دنيوية أو دينية) معينة ومتكاملة وحاملة للحلول جميعها يعتقدها ويبشر بها.
بيد أن هذا لا يعني أن كل مثقف إيديولجي هو مثقف يقيني بالتعريف، فتعميم كهذا مرفوض وغير دقيق أصلا، ابستمولوجيا وتاريخياً.
هناك مثقفون إيديولوجيون تنطبق عليهم سمة «المثقف القلق والمُقلق»، وهناك مثقفون كثر غير مؤدلجين لكنهم يندرجون تحت وصف «المثقف اليقيني والمُيقن. وفي واقع الأمر والمشاهدة ليس بالضرورة أن يكون «المثقف المُوقن والموقِّن» مؤدلجاً، وليس بالضرورة أن يكون دينيا، وهنا تكمن خصوصيته التي تضمن وضمنت له الانتشار والتوسع، وهي خصوصية تستحق التوقف عندها طويلاً وتشريحها.
فقد يكون هذا المثقف صاحب «يقينيات» وخيارات سياسية وثقافية واجتماعية غير إيديولوحية، لكنه يدافع عنها ويعمل على ترويجها بالحميّة والحماس الذين يتصف بهما المثقف المؤدلج.
هو إذن «مثقف داعية»، فقد يكون داعية «للقبيلة» (مثقف قبيلة بالمعنى العريض والترميزي للكلمة) أو داعية لـ «نظام سياسي» ما، أو لـ «نظام اجتماعي» معين.
كما قد يكون «مثقف فكرة» يرى فيها الحل النافذ القريب من تصور الخلاص الإيديولوجي، فمثلاً قد يكون «مُوقنا» بفكرة «السوق الحر» في الاقتصاد أو «مُوقنا» بفكرة «سيطرة الدولة» على الاقتصاد، أو بحتمية «الخصوصية الثقافية» لمجتمعه وشكل السياسة فيه على وجه إيديولوجي وشبه ديني.
قبل ما يُسمى «عصر النهضة» يمكن متابعة تبلور مفهوم «المثقف القلِق والمُقلق» في السياق العربي الإسلامي بالعودة إلى تجارب جيل من المتكلمة والمتصوفة والفلاسفة والكتاب والشعراء الذين احتلوا مكانة مركزية في تاريخ الأفكار ضمن ذلك السياق.
ويندرج في هذا الجيل فلاسفة كابن حيان التوحيدي وأبو بكر الرازي وابن سينا والسهروردي والفارابي والكندي والحسن بن الهيثم، ومتصوفة مثل ابن عربي والحلاج، وأدباء وشعراء مثل البحتري وأبو تمام وبشار بن برد والجاحظ والخيام وغيرهم كثير.
ليس بالإمكان التعرض لأفكار وتجارب هؤلاء حتى ولو بإيجاز، وهي موثقة في كتب ودراسات عديدة، لكن ما يهم هنا هو التأمل في التحولات الكبيرة التي أسست لها أفكارهم وكتاباتهم وما أثارته من سجالات طويلة وعميقة ودائمة.
ذلك أن جزءا عظيما، إن لم يكن الجزء الأعظم، من السجال الذي دار ويدور في ميدان الأفكار السياسية والاجتماعية والدينية أنتج أفكاراً ونظريات عظيمة تناسلت من أفكارهم والأفكار الواردة في “الردود» المعمقة عليهم.
الأهمية البالغة لجيل مفكري ومثقفي القلق العربي والإسلامي، على ذلك، تكمن في تحرشهم الدائم بمساحة «اليقين» التي هي الأوسع في التقليد الإسلامي.
وقد لعب هؤلاء دوراً مركزياً وأساسياً في تحدي وتحريك القناعات السائدة وساجلوها من خارج منظومتها الفكرية والنظرية.
وقد أدى ذلك إلى تصدي أجيال من العلماء والمفكرين وحملة راية الدفاع عن «اليقين» للرد على الأفكار القلقة التي يثيرها أولئك.
وإذا ما تأملنا في المدارس الفكرية والفلسفية والسياسية في التاريخ العربي والإسلامي وحتى يومنا هذا فإننا نلحظ وبوضوح أنه لولا الأفكار «المُقلقة» والقلق الذي أثارته على الدوام لما كان هناك إنتاج فكري وعلمائي وديني، ذلك أن الكثير مما انتجه مثقفو الدفاع عن اليقينيات السائدة جاء لحماية تلك اليقينيات والرد على المشككين فيها: «الرد على المتكلمة»، «الرد على المتصوفة»، «الرد على الدهريين»، «الرد على الزنادقة»، وهكذا.
من زاوية ما، إذن، يمكن القول إن مدارس القلق والإقلاق في السياق العربي والإسلامي سبقت وبكثير مدارس الشك الديكارتي والهيغلي في القرنين السابع والثامن عشر والتي ينسب لها كثيرون ثورية التفكير الغربي ومقارعته ليقينيات الفكر والدين في الفضاء الأوروبي، والانتقال الحاسم به إلى «قلق الحداثة».
لكن من زاوية أخرى ظلت جهود معظم مثقفي القلق ومفكري الإقلاق العرب والمسلمين تناوش على الحدود وعلى هوامش اليقين الراسخ ولم تتمكن من النفاذ إلى البنية الفكرية المسيطرة والمتسعة لـ «اليقين»، وتعيد بناء آليات التفكير نفسه.
وكانت الظافرية الأشعرية على مدرسة المعتزلة ولا تزال أحد أهم معالم ديمومة البنية اليقينية وفشل القلق ومثقفيه في كسب أرض حقيقية في قلب تلك البنية.
وتبعاً لذلك بقي أثر أجيال مثقفي ومفكري القلق في الفضاء العربي والإسلامي ضعيفا وهامشيا، وبقيت الذهنية الجمعية للناس محكومة بمدرسة التصورات المطلقة واليقينية التي احتلت المسار الرئيس لحركة الأفكار والتي دافعت عنها مدارس التقليد.
عملت هذه المدارس على تحديد ما يجوز وما لا يجوز التفكير فيه ونقده ومساجلته، وكانت مساحة اللامفكر فيه هي الأوسع والأعرض وبما لا يُقاس مع مساحة المفكر فيه.
ويمكن القول إن سيرورة سجال القلق مع اليقين في المثال العربي الإسلامي هي السيرورة الاعتيادية في أمثلة أخرى في التاريخ الإنساني، ذلك أن التخلي عن اليقين أو إفساح المجال واسعا للقلق كي يخترقه لم يكن ديدن حركة الأفكار الإنسانية، بل إن القصة الأكثر تكرارا هي هامشية وجزئية الاختراقات التي ينجح القلق في القيام بها في الأرضيات الراسخة لليقين، واستثارته لدفوعات اليقين وإعادة تأهيله لذاته أمام الأسئلة الصعبة (في الغالب) التي يستثيرها القلق ومثقفوه.
في المقابل وفي سياق تطور الفكر الغربي الشكوكي، جاء التحول الكبير في معارك وسجالات القلق واليقين مع مشروع التنوير والحداثة.
فهنا استطاع القلق والنقد النفاذ إلى جوهر البنية الفكرية وتحويلها واحتلالها، ومركزة القلق في قلبها وتهميش اليقين إلى درجات كبيرة وغير مسبوقة.
ووجدت الأرض الخصبة التي يمارس فيها المثقف القلق قلقه الدائم، وتطور تفكير المثقف القلق ليطال كل شيء، فليس ثمة ما يقع خارج نطاق القلق، وليس هناك فكرة في مأمن من النقد.
وأخذا بالاعتبار هذا التقدير لتطور النقد في قلب المشروع الحداثي إلا أنه من الضروري الإشارة إلى أمرين: الأول متعلق بما قد يتبادر إلى الذهن من أن اليقين الديني هو المُستهدف الوحيد من قبل القلق والنقد وهذا ابتسار للفكرة النقدية التي يجب أن يتجاوز إطارها استهداف يقين معين بحد ذاته، ولأن هذا الحصر يجانب جوهر تعريف التفكير القلق والمقلق ومثقفيه، فالحداثة نفسها وعقلانيتها، وهي التي أطلقت مفاهيم النقد والشك إزاء يقينيات الدين والميتافيزيقيا، هي أيضا مُستهدفة بالقلق والنقد من قبل المثقف القلِق الحقيقي.
وهذا يستأهل تأملاً وتقليباً إضافيا دائماً لعلاقة النقد والقلق مع الحداثة.
والأمر الثاني الذي توجب الإشارة إليه هو النقص الفادح في «نقدية» هذا النقد الحداثي والمتمثل في قصوره عن نقد التوسع الكولونيالي والإمبريالي الغربي لعقود طويلة وسكوته عنه، مع بعض استثناءات مُقدرة هنا أو هناك.
ومثل ذلك القصور المريع وما زال في كثير من الأدبيات ذات العلاقة الفضيحة الفكرية الأهم للحداثة الغربية برمتها التي انسجم كثير من روادها بشكل مباشر أو غير مباشر مع المشروع الاستعماري الموجه ضد الآخر.
ففي الوقت الذي تقدم فيه النقد لتصويب الحداثة من داخلها، بدا وكأن ذلك النقد مقصور على تطوير «الذات الغربية» وعدم الاهتمام بما تفعله خارج فضائها الجغرافي والسياسي من جرائم بحق الآخرين.

* أجزاء من كتاب «المثقف القلِق وأفول مثقف اليقين» يصدر قريباً عن دار الساقي، بيروت.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني.