صفقة المأزق أم مأزق الصفقة ؟ د. عبد المجيد سويلم

الخميس 08 مارس 2018 06:24 م / بتوقيت القدس +2GMT



لا أعرف إذا كان بالإمكان «نحت» لفظ التمأزق في اللغة العربية، وأشك في «نحت» استخدام اللفظ في صيغة الفعل، كأن نقول مثلاً: إن ترامب قد مأزق صفقته من تلقاء نفسه أو كأن نقول: إن الصفقة قد تمأزقت بفعل عوامل معينة.
الرئيس ترامب مأزق في الواقع صفقته بأن ارتهن أو أراد أن ترتهن لفريقه الخاص حول الشرق الأوسط.
مأزقة الصفقة تمّت عندما تصور الرئيس الأميركي أن الأمور سهلة وميسّرة وممهّدة لإطلاقها والبدء بقضية القدس.
توهّم الفريق الترامبي أن «صدمة» القدس لن تخرج عن كونها ردة فعل معينة ما أن تعلن بالرفض حتى يتم تجاوزها (وإن على مضض)، وبحيث تُنحّى فعلاً عن طاولة المفاوضات، والتمهيد لإخراج قضية اللاجئين لاحقاً عَبر رشوة مالية، وحصر القضية كلها في نطاق نزاع على كمية ومساحة الأرض التي ستُلحق بإسرائيل والترتيبات الأمنية التي تتحكم بها لعقود قادمة لكي تتحول إلى حالة دائمة.
أي أن القضية الفلسطينية من وجهة نظر فريق ترامب ليست سوى صيغة لحكم ذاتي موسع قليلاً لكنه لا يصل أبداً في أي مرحلة قادمة إلى الدولة.
إنها منطقة رمادية بين الحكم الذاتي والدولة، بحيث يتم قضم أية صلاحيات من الحكم الذاتي لدى أي بوادر «للتمرد» على محدّداتها أو توسيع هذه الصلاحيات ـ دون حدود الدولة ـ وذلك حسب «حسن تصرف» الفلسطينيين ودرجة «استجابتهم» للاعتبارات الإسرائيلية في كافة المجالات.
سقطت هذه الأوهام بصورة مدوية تحت ضربات العزيمة والإرادة الفلسطينية بالمجابهة، وهذا هو عنوان التمأزق الأول. توهم فريق ترامب، أيضاً، أن العالم لن يقف في وجه ترامب، وأن العالم العربي والإسلامي (الحليف اللصيق للرئيس ترامب) سيساعده على الضغط على الفلسطينيين، فإذا بالأمر ينقلب على الرئيس وفريقه بعد أن تحول السقف الذي وضعته القيادة الفلسطينية إلى حالة يستحيل تجاوزها على المستوى الوطني، ويصعب الوقوف ضدها على المستوى العربي والإقليمي، كما تحول السقف الفلسطيني إلى سقف مقبول دولياً، وأصبح يلقى دعماً وإسناداً متزايداً حتى على مستوى آليات مواجهة الصفقة نفسها.
وهنا، أيضاً، تمأزقت الصفقة بصورة أعمق من كل تصورات فريق ترامب.
أخّر الفريق طرح المبادرة الغامضة والواضحة في آن معاً، آملاً أن يحدث من الحراك على مستوى الإقليم ما يفتح أمامها (أي الصفقة) أية طرق جديدة، مهما كانت هذه الطرق وعرة وصعبة، ومراهنةً أن تنجح «الضغوط» على القيادة الفلسطينية في إحداث «تراجعات» من شأنها إعادة الحياة إلى الصفقة أو لإعادة الاعتبار ولو قليلاً ولو شكلياً لها.
لكن الأمور حتى هنا لم تسر وفق شهوات الفريق، ولم ينجح هذا الفريق في إقناع أحد على هذا الكوكب سوى إسرائيل نفسها، والتي هي أصلاً صاحبة المصلحة الوحيدة فيها.
باختصار أثبت ترامب وفريقه أن بالإمكان البرهنة على أن 3 + 2  = 2 + 3 وهذا هو الشيء الوحيد الذي تم إثباته حتى الآن.
يتحدث العالم الآن عن صيغة المؤتمر الدولي وعن هيئات دولية موسعة. ومبادرة الرئيس أبو مازن في مجلس الأمن الاعتراضية الذكية جرى تفهمها من جهات دولية كثيرة وأصبح انتظار الصفقة معروفاً:
فإما أن تتم تعديلات جوهرية عليها لجهة القدس بحيث تكون القدس الشرقية هي العاصمة المقابلة «للعاصمة» التي اعترف بها ترامب عاصمةً لإسرائيل، ولجهة الحدود بحيث تكون حدود الرابع من حزيران هي الحدود الأساس، ولجهة الحل العادل والمتفق عليه لقضية اللاجئين على قاعدة القرار 194.. وإمّا رفض اعتبار هذه الصفقة أساساً صالحاً لأي حل من أي نوع كان سوى الفهم الإسرائيلي لهذا الحل.
وإذا كان ترامب على استعداد لإدارة ظهره لكل الفلسطينيين، وكل العرب والمسلمين، ولكل العالم على هذا الصعيد فإنه لا يستطيع أن يدير ظهره للقطاعات المتزايدة من الشعب الأميركي التي بدأت تتخوّف من كل سياساته على كل الجبهات.
الحروب التجارية التي بدأ بشنّها على شركائه التجاريين، والاستراتيجية الأمنية التي أعلنها ضد روسيا والصين، والتخوفات الأوروبية من التهوّر الذي يطرحه ترامب لمواجهة «إيران»، وهذا التجاوز المتعمد للقانون الدولي في كل سياساته أعاد تمأزق صفقته حول الشرق الأوسط، وأزّم وعقّد الأمور أمامه بصورة أعمق مما كان عليه الأمر قبل عدة شهور فقط.
أما الرئيس الروسي بوتين فقد وجّه له صفعة العصر الجديد حين أكد أن روسيا تمتلك الرد السريع والقوي والتلقائي على أي اعتداءات نووية تكتيكية أو استراتيجية على روسيا أو على أي من حلفاء روسيا.
وكان لافتاً تماماً ما أكد عليه بوتين من أن منظومة الدرع الصاروخي في أوروبا لم تعد ذات أهمية استراتيجية وأنها أصبحت عديمة الفائدة والجدوى.
ترامب هو الرئيس الوحيد في تاريخ الولايات المتحدة الذي يريد عن وعي وتصميم ضرب منظومة التعايش القائمة على القانون الدولي، وهو يعمل ليلاً ونهاراً لكي تتحول العربدة إلى القانون الدولي الجديد في هذا العالم.
عمّا قريب سنشهد ـ كما أرى ـ تصدُّعات كبيرة في منظومة الرئيس ترامب، وهي التي في العادة تسبق الانهيار الكبير.
أما صفقة القرن فستنهار بسرعة أقل من سرعة انهيار الأجزاء المكوّنة لسياساته لأسباب يعرفها القارئ العربي، والقارئ الفلسطيني جيداً.