معادلة جديدة على الطريق ..حسين حجازي

السبت 06 يناير 2018 08:28 ص / بتوقيت القدس +2GMT
معادلة جديدة على الطريق ..حسين حجازي



قلنا إذن لهذا الرجل الذي فقدت امبراطوريته منذ وقت ظلها، والمتورط في سلسلة ممتدة ولا نهائية من الأزمات الداخلية ومع العالم، والتي لا اظن انه سوف يستطيع الخروج منها سالماً. ان القدس ليست مكاناً للبيع نقطة وأول السطر، وبعد هذه النقطة الفاصلة قلنا او نقول للرجل: هل يصدقك أحد او تصدق نفسك جدياً أننا لا نريد التفاوض أو العودة الى المفاوضات، وقد أمضينا ربع قرن في هذا التفاوض في زمن متطاول؟ وهذا الصبر الاستراتيجي في السير وراء إسرائيل الى باب الدار حتى انتهينا او بقينا امام هذه العتبة دون ان نلج الى الباب. 
ولكننا طرحنا السؤال ونطرحه الآن: ماذا تبقى لنا ان نتفاوض عليه اذا كنت انت بجرة لسان او قلم أزحتَ القدس عن الطاولة؟ واكمل نتنياهو وحزبُه وبرلمانه المهمة بإزاحة الضفة أي موضوع التفاوض وايضا  بجرة لسان عن الطاولة، فهل ظننت انه يمكن استهبالنا او الاستخفاف بنا الى هذا الحد؟ او تعتقد انه بحفنة من الدولارات يمكن شراء مواقفنا؟
والواقع أننا في الحسابات الأخيرة لتوازنات القوة التقليدية نحن الطرف الأضعف بما لا يقاس او يقارن مع إسرائيل، التي نشتبك معها منذ خمسين عاماً في هذا الصراع، والتي تملك قوة عسكرية هائلة. فكيف بالأحرى يا سيد دونالد ترامب ان نقل عقلنا وندخل في صدام مع اميركا القوة الأعظم في التاريخ، وهذا هراء معاذ الله. لكن في الحسابات غير التقليدية او ما فوق هذه الحسابات التقليدية التي تحدث عنها استراتيجيون كبار حول العالم وحتى منظرون إسرائيليون مثل يهوشفاط هركابي، فان هذه الحسابات او العوامل والعناصر او الاعتبارات ما فوق القوة المادية او التقليدية، انما هي التي تمثل معادلة القوة الحقيقية في نهاية المطاف، وهذه العناصر هي التي تتعلق بالجانب القيمي او المعنوي كما المعرفي والإخلاقي والسيكولوجي من الصراع او بين أطراف الصراع، أي من قبيل اعتبارات مثل الشعور بالكرامة الوطنية والبطولة والذات الجماعية وإرادة القتال والمقاومة الفطرية، التي تحدث عنها بان كي مون الامين العام السابق للامم المتحدة من جانب البشر والشعوب للاحتلال.
حذار اذن، ان القوي هو آخر من يعلم او يعرف الحقيقة قال ارسطو محذراً تلميذه الإسكندر المقدوني، وكتب ادوارد جيبون اهم مؤرخي الامبراطورية الرومانية ان قيصر سقط بفعل او بالرغم من قوته وتفاخره بهذه القوة على حد سواء. وهل القوة هي رمزية فارس عودة، الحجر أمام الدبابة في الانتفاضة الفلسطينية الثانية؟ والرمزية العالمية اليوم لعهد التميمي التي تحولت الى أيقونة المقاومة السلمية او الكفاح الشعبي، في التعبير عن التوق الأزلي للبشرية في صراعها ضد الظلم. وتبلغ هذه الرمزية التي تعبر عنها (جان دارك) الفرنسية وعهد التميمي الفلسطينية في التفوق والانتصار على القوة الغاشمة.
ولكن هذه هي المعادلات التي قال عنها مرة العالم الشهير آينشتاين إنها وحدها هي التي ترسم او تخط مسار التاريخ، وليس عناصر القوة الطارئة او الراهنة التي يظل مجالها ماهو يومي او راهن ومؤقت:
• لو كنا سوف نستسلم لكان هذا قد حدث بعد حدوث صدمة النكبة العام 1948، لكن يجب الاعتراف انه بفضل هذين الملكين الملك عبد الله الأول جد الملك عبد الله الثاني اليوم، والملك فاروق اللذين استطاعا الحفاظ على إبقاء الضفة وقطاع غزة كجزأين من ارض فلسطين التاريخية خارج السقوط وسيطرة إسرائيل عليهما عند تلك اللحظة المصيرية الفاصلة والحاسمة، وكذا بفضل التعبئة القومية حول مركزية القضية الفلسطينية، التي قامت بها الناصرية والأحزاب والقوى القومية العروبية. فان الأساس المادي والسياسي لاستعادة الوطنية الفلسطينية صعودها اللاحق قد تحدد، ومعه تم تحديد الخط الأحمر الكبير للإجماع العربي حول عدم المساومة او التفريط بالحقوق الفلسطينية. وهذه الوطنية التي بدأت إرهاصات نهوضها وتشكلها اللاحق مع انطلاقة حركة فتح العام 1965 .
• ولو كان استسلامنا سيحدث لحدث ذلك بعد صدمة حزيران 1967، حين احتلت إسرائيل باقي أراضي فلسطين أي الضفة وغزة معا وهزمت الجيوش العربية، ولكن الذي حدث هو غير المتوقع او غير المخطط له، اذ لولا هذه الحرب ونتائجها الكارثية لما تبلور صعود الوطنية الفلسطينية ونشوء حركة التحرر الوطنية الفلسطينية، وتالياً ربما مفهوم الدولة الفلسطينية والاستقلال الفلسطيني نفسه والخروج من التبعية او الذوبان في الشتات الجغرافي في اللجوء العربي. وكانت هذه هي لحظة الانعطاف التاريخي لتحول الفلسطينيين من شعب بلا هوية مجرد يتسول المساعدات أمام مراكز التموين، الى شعب من المقاتلين من اجل الحرية كما قال ياسر عرفات. وكان هذا التحول بمثابة استئناف المسار التاريخي في التصدي والصراع ضد الحركة الصهيونية، وبداية عملية كبرى ما زالت متواصلة لإعادة تصحيح وإلغاء اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية.
• ولو كان أمر كهذا سيحدث لحدث بعد خروج المنظمة و"فتح" أو فصائل ومكونات الوطنية الفلسطينية من قاعدتها او حصنها القوي في لبنان العام 1982، في ذروة الاندفاعة العسكرية الإسرائيلية وصولاً حتى محاصرة اول عاصمة عربية وفق نظرية نقل المعركة الى ارض العدو. لكن الذي حدث هو مسار جديد من التحول كان معاكساً للتوقعات او التخطيط، حين اعتقد شارون آنذاك انه بقطع رأس الحية، كما كان يسمي منظمة التحرير الفلسطينية، سوف تهدأ البلاد أي اسرائيل اربعين عاماً وينتهي كل شيء. اذ بدلا من هذه الاوهام انتقلت الوطنية الفلسطينية والمواجهة مع الاحتلال من الخارج أي من السياج المحيط بفلسطين عبر المنافي الى الداخل. 
وتبدأ منذ ذلك الحين حقبة الحروب الداخلية الكبرى على ارض فلسطين، الانتفاضة الاولى عام 1987 وولادة حركة حماس، ثم اول علامة على انهاك قوة العدو بالاعتراف الاسرائيلي في اتفاقية اوسلو بمنظمة التحرير الفلسطينية الممثِلة للوطنية الفلسطينية، وبداية مسار التفاوض الجدي لاقامة الدولة الفلسطينية وانهاء الاحتلال.
• ولن يكون هذا الاستسلام ممكناً او مطروحاً على الإطلاق في الأزمات او المواجهات التي لم تتوقف مع الاحتلال، ولا سيما بعد عملية ما سُمي "السور الواقي" التي نفذها شارون لإعادة احتلال المناطق " أ " ذات السيادة الفلسطينية العام 2002، ومحاصرة عرفات واغتياله لاحقاً. بل ان ما حدث انسحاب اسرائيل لاول مرة من غزة وهدم المستوطنات التي أقامتها، وبداية الإقرار الأميركي والعالمي بحل الدولتين بما في ذلك إقامة الدولة الفلسطينية على حدود حزيران 1967 .
هل ما يحدث الآن في هذه المحطة الأخيرة ومنذ أيام ان هذين الرجلين وعند هذه الذروة الاخيرة ولكن غير المسبوقة من اندفاعة اليمين المتطرف في إسرائيل، يفكران او يعتقدان او يخططان او يراهنان على انه لم يبقى أمامنا سوى الاستسلام كخيار وحيد وحتمي؟ وانه بالأصل يمكن بدورنا ان نظن او ان نخمن بان الهدف من خطة ما يسمى بصفقة القرن التي ما زال يحاول ترامب إحاطتها بالسر والغموض على طريقة راسبوتين دون ان ينجح في ذلك، ليس في جوهرها سوى كمين أُعِد لنا، وان الله وقى أخيراً شرها بفعل غباء الرجل وقلة درايته او خبرته، فقدم لنا المساعدة بانقلاب السحر على الساحر بنفسه.
والذي حدث بعد كل هذه القرارات انهما بدون ان يقصدا ذلك قاما بتحطيم ما اسماه نتنياهو نظرية الضغط من الخارج، أي عبر التسوية الإقليمية لفرض الاستسلام على الفلسطينيين، بعد ان سارعا بتهور الى الكشف عن ان السلام المقصود في نهاية هذه الطريق، ليس سوى تصفية طموح الفلسطينيين ونقل المعركة الى صفوف الفلسطينيين وبعض الدول العربية، ولكن كل هذا لم يعد مطروحا الآن. واذا كان لنا ان نبني على السياق التاريخي الفلسطيني او المعادلات التي حكمت هذه السيرورة من الأزمات السابقة، فانه ما بعد هذه الاندفاعة الكبيرة والقاسية ولكن الطائشة لليمين الإسرائيلي، ليس سوى معادلة جديدة أُخرى. وهذه هي العتبة او المفترق الذي نقف عنده الآن.