سقوط أسطورة الوجود الفلسطيني في لبنان..عبير بشير

الإثنين 25 ديسمبر 2017 10:21 م / بتوقيت القدس +2GMT



من السرايا الحكومي في بيروت، تم الإعلان عن نتائج التعداد العام للسكان والمساكن في المخيمات والتجمعات الفلسطينية في لبنان برعاية الرئيس سعد الحريري وتحت مظلة لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني وبالشراكة مع إدارة الإحصاء المركزي اللبناني والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
النتائج كانت صادمة للغاية وخالفت كل التوقعات، لجهة الرقم المنخفض لأعداد اللاجئين الفلسطينيين – وليس العكس - حوالى مئة وأربعة وسبعين ألف لاجئ، فلطالما كانت أعداد الفلسطينيين في لبنان مادة دسمة للسجال السياسي والإعلامي بين الفرقاء اللبنانيين.
وللأرقام حكاية في لبنان، خصوصاً أرقام السكان، والأهم من ذلك الطوائف التي ينتمون إليها.
في بلد تحتل فيه الديموغرافيا موقعاً مقرراً في الأيديولوجيات منذ الاستقلال، وشكل إخفاء عدد السكان فيه عرفا ساريا منذ أول وآخر إحصاء للتعداد السكاني إبان الانتداب الفرنسي في عام ألف وتسعمائة واثنين وثلاثين.
لبنان ذلك الخليط المتشابك والمربك من المذاهب والطوائف والعائلات والأحزاب والمصالح، المُهدَّد دائماً بانقضاض إسرائيلي من الجنوب، والمختنق دائماً تحت ثقل الجغرافيا السورية من الشمال، والمتطلع دائماً بلهفة إلى الجديد عبر البحر من الغرب، والمحكوم من الداخل في لعبة توازنات شديدة الحساسية والتعقيد، تترجم نفسها - في مصافحات السياسيين أمام الشاشات، وحين ينسد الأفق في زخات الرصاص في الشوارع والأزقة.
في لبنان هذا، غدت المارونية السياسية شديدة الحساسية لأي تغيير سكاني، من شأنه تهديد التوازن العرفي الذي منحها موقع الصدارة منذ الاستقلال.
وكان الوجود الفلسطيني في لبنان يقضّ مضاجع الأطراف المستفيدة من الوضع القائم، فهو يضيف كتلة لا يُستهان بها إلى مسلمي البلد، منذراً بقلب الميزان الديموغرافي لصالحهم، ثم إنه يضيف إلى بؤر الفقر اللبناني – المسلمة في أكثريتها – مادة بشرية جديدة تهدد بانفجار طبقي.
وانقسم اللبنانيون حول الكيفية التي يجب من خلالها مقاربة الوجود الفلسطيني، فمنهم من اعتبرهم ضحية احتلال يمارسه عدو مشترك وجبت رعايتهم والتضامن مع قضيتهم، ومنهم من اعتبرهم غرباء يهددون أمن لبنان واستقراره وديمومة فكرته.
ولم يكن الأمر تباينا شكليا في وجهات النظر، بل حربا أهلية تقاتل داخلها اللبنانيون وهم يعتقدون أن الحرب تدور بسبب أو دفاعا عن الفلسطينيين.
انتهت الحرب الأهلية اللبنانية ولم تنته بين اللبنانيين إشكالية الوجود الفلسطيني، والذي يمثل صورة من صور فشل الدولة اللبنانية في إدارة ملفات كثيرة من بينها الملف الإنساني للاجئين الفلسطينيين. 
وتعاملت السلطات اللبنانية مع الفلسطينيين تعاملا يعكس ركاكة النظام الاجتماعي والسياسي اللبناني نفسه.
وقاربت علاقتها بالمخيمات الفلسطينية مقاربة أمنية، ولم تصدر القرارات والتشريعات المنظمة لهذا الوجود وفق قواعد القانون الدولي.
وقد تم إدراج رفض التوطين في اتفاق الطائف، ثم أدخل في مقدمة الدستور اللبناني، التي تضمنت نصا يقول إن «لا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين. فالتوطين ليس مفردة عابرة في اللاوعي اللبناني بل تتصل بأزمة وجودية كبرى، وقد تزايدت المخاوف اللبنانية منه بعد اتفاقية أوسلو».
وعاش الفلسطينيون مأساتهم اللبنانية غارقين في همّ البقاء اليومي من جهة، ومن جهة أخرى منخرطين في طمأنة الفسيفساء اللبنانية بأنهم لن يكونوا عددا يهز توازن الطوائف، ولن يكونوا قوة مع هذا الفريق ضد هذا الفريق.
وبالعودة إلى التعداد، فهو أول رقم رسمي لعدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان منذ سبعين عاما. 
ويحدد هذا التعداد خصائص اللاجئين الديموغرافية، والاقتصادية، والصحيّة، والاجتماعية، والتربوية، ما يضعنا في صورة الوضع القائم بدقة في المخيّمات والتجمعات الفلسطينية.
ويظهر التعداد بأن اللاجئين الفلسطينيين لا يشكلون عائقاً أمام أي مشروع يسمح للبنان الرسمي والشعبي بأن يتحمل مسؤولياته تجاههم. 
ومن أهم الدلالات التي أظهرها التعداد والتي ستوجه مسار العلاقات اللبنانية الفلسطينية مستقبلا، هي إمكانية تجاوز وكسر الكثير من المحرمات والتابوهات التي طالما سادت في لبنان.
كما أن المعلومات الواردة في التعداد السكاني تشكل حجر الأساس في التخطيط والتطوير لأي برامج تستهدف اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بهدف تحسين ظروفهم المعيشية.
الرئيس سعد الحريري وفي كلمة له بعد إعلان النتائج رأى: أنه مع إنجاز هذا التعداد أصبح عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان واضحاً اليوم، بعيداً عن التهويل والتوظيف السياسي، وواجباتنا تجاه إخواننا الفلسطينيين المقيمين على أراضينا مسألة يجب أن تتحرر من التجاذبات والمزايدات السياسية. 
ووصف الحريري القرار الأميركي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بأنه – هدية للمتطرفين- ويشعل المنطقة، وجدد القول إن قراراً كهذا ما كان ليحصل لو لم تكن الدول العربية غارقة في الحروب والصراعات، التي جعلت ملايين المواطنين العرب يتشردون على صورة الشتات الفلسطيني.
وينزع رقم الفلسطينيين الجديد في لبنان، فتيلاً مهماً صار مسلماً به من الأدبيات السياسية اللبنانية حول الوجود الفلسطيني في لبنان.
ولكن يمكننا أن نقرأ المشهد من الكلمة الأخيرة، أن هناك عملية – تطفيش منظمة -  للفلسطينيين من لبنان تمارس منذ عقود، ومن خلال شبكة من الضغوط السياسية والمعيشية والاقتصادية والاجتماعية على اللاجئ الفلسطيني، وإن ما جرى هو عملية تسرب أو تسريب للفلسطينيين، عن طريق الهجرة إلى بلدان أكثر ترحيباً بهم ولا تستهدفهم كعدو جماعي اتفق اللبنانيون على تحميله وزر الحرب الأهلية. 
حيث تعاني مخيمات لبنان من الفقر والبطالة وظروف السكن السيئة والنقص في البنى التحتية، وبات الواقع في المخيمات واقعاً مأسوياً بكل المقاييس. 
وعلق رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني وليد جنبلاط، على هذا التعداد الرسمي، وقال في تغريده له: «أخيرا وجدوا أن عدد الفلسطينيين في لبنان لا يتجاوز المائة وأربعة وسبعين ألفا»، متسائلا: «لماذا اليوم سمح بالتعداد كي تسقط أسطورة التوطين وما رافقها من تحريض وإذلال للاجئ الفلسطيني على مدار عقود».
وتتضمن سلسلة التضييقات الرسمية قيودا كبيرة على عمل الفلسطينيين، وعلى السكن، ومنع إنشاء مخيمات جديدة، وإلغاء الحق في الملكية العقارية ومنع الإرث عمن كان متملكا،....
وفي منتصف سنة ألفين وخمسة صدر قرار من وزارة العمل اللبنانية بالسماح للفلسطينيين بالعمل بحوالى خمسين وظيفة، غير أنه أبقى على عدم السماح لهم بالعمل في مجالات الطب والهندسة والصيدلة والمحاماة والصحافة .... 
وعلى الرغم من أن هناك تعاطفاً كبيراً مع إعطاء الحقوق المدنية للفلسطينيين لدى العديد من التيارات والقيادات السياسية في لبنان - بما في ذلك حركة أمل، وتيار المستقبل، والتقدمي الاشتراكي -، إلا أن الفرقاء اللبنانيين يتبارون في إهمال الشأن الفلسطيني، صونا لمسألة منع التوطين وتجنبا لأي شبهة في الترويج له.
وقد ذكرت النائبة بهية الحريري أن رفيق الحريري كان ضد قانون تملّك الأجانب الذي أقر عندما كان رئيساً للوزراء، ومع ذلك فقد اضطر للسير به على الرغم مما يحمله من ظلم للفلسطينيين، حيث شعر بأنه سيتعرض لحملة إذا دافع عنهم.
ويكشف بعض المصادر الفلسطينية عن تغيّر لافت طرأ على المزاج اللبناني السياسي من مسألة الوجود الفلسطيني، دون أن يرقى ذلك إلى سلوك جماعي مُمأسس.
ومع ذلك فإن القيادات الفلسطينية، وعلى الرغم من الضغوط التي تتعرض لها من القاعدة الاجتماعية الفلسطينية، إلا أنها تعبر عن تفهم لظروف لبنان وحساسية تركيبته الداخلية والجيو - إستراتيجية. 
التعداد السكاني تم أيضاً في لحظة طارئة تتمثّل في أنّ خريطة اللجوء والنزوح في لبنان، باتت في شقّين: فلسطيني وسوري، فيما التفاعل الجاري بين بيئتي النزوح السوري واللجوء الفلسطيني يؤشر على أنه بمرور سنوات قليلة سيتّجه ليصبح بيئة اجتماعية واحدة تشترك في علاقات اقتصادية وحتى مفاهيم سياسية متقارِبة كونها تعيش الظروف الاجتماعية والمعيشية والأمنية ذاتها في لبنان. 
ويخطئ من يعتقد أن أزمة اللجوء السوري إلى لبنان هي أزمة عابرة أو مؤقتة وستنتهي مع انتهاء الحرب الجارية على الأراضي السورية، فنهاية القتال في سورية لن تفضي إلى عودة سريعة للاجئين، وقد تستغرق إعادة بناء ما تهدم من بنية تحتية أساسية وإعادة إعمار المدن والقرى فترة طويلة.