القدس الشرقية على حدود حزيران 1967..حسين حجازي

السبت 16 ديسمبر 2017 12:06 م / بتوقيت القدس +2GMT




الذين استقبلوه وألقوا بالورود عليه وبايعوه قبل ستة شهور في الرياض، هم أنفسهم الذين أدانوه وشجبوه ونبذوه في إسطنبول التركية يوم الأربعاء الماضي، وهم أيضا مجموع الدول العربية والإسلامية السبعة والخمسين التي وعدت إسرائيل ان هي اعترفت بالواقع بدل استمرار احتلالها ومواصلة التطرف، ان  يكونوا باعترافهم بها والسلام والتطبيع معها، بمثابة المكافأة او الجائزة تحت الطاولة. او ما يشبه البشارة التي تحدث عنها السيد المسيح "إني أبشركم بفرح عظيم" أي بسلام عظيم، لكن هذا اصبح اليوم بعيد المنال الا اذا ؟.
وضموا أصواتهم الى صوت الفلسطينيين كأنهم على قلب رجل واحد، فيما يشبه طرد او فصل الإدارة الأميركية من الوظيفة التي ظلت تحتكرها لعقود. إن أميركا لم تعد وسيطاً مقبولاً لحل الصراع. وقال رئيس المؤتمر رجب طيب أردوغان :سوف تعرف يا ترامب الآن اننا لا نمزح، وبالفعل لم يمزحوا هذه المرة وقد ظهروا كما لو انهم يثأرون لكرامتهم الجريحة لما اعتبروه إهانة للعالم الإسلامي الذين كانوا قادته وممثليه. ولم يستطيعوا تحمل وقاحته وربما صبيانيته.
لم تعد الادارة الاميركية مقبولة لكن كما هو معروف فان الطبيعة والواقع والتاريخ وكذلك النظام او المنظومة العالمية ايا يكن شكلها، لا يحبون او يقبلون الفراغ، ما يعني ان قوة عالمية موازية او مهيأة يجب بالضرورة ان تتحضر ولديها الأسباب والدوافع لإملاء هذا الفراغ. وهناك اليوم قوة عالمية ربما تكون الأكثر استعدادا للعب هذا الدور وهي الاتحاد الأوروبي.
وكأن التاريخ لا ينفك عن إعادة تقلباته اذا كانت هذه اللحظة الدولية سوف تشبه عملية وراثة أميركا الصاعدة بعيد الحرب العالمية الثانية لتركة أوروبا الغاربة في الشرق الأوسط. "وتلك الأيام نداولها بين الناس" والأيام كناية عن تدافع الدول. ولطالما تحدث الأوروبيون عن الشرق الأوسط ككيان استراتيجي هو بمثابة امتداد لأوروبا منذ حملة نابليون الى مصر وفلسطين الى اليوم.
ولكن حتى في حقبة الهيمنة الأميركية على ملف الشرق الأوسط فان أوروبا عمليا لم تنسحب او تتخلى عن قدر من الشراكة في محاولتها مواصلة التأثير على أحداث الشرق الأوسط، وان قبلت لعب هذا الدور من على الهوامش او القواعد التي حددتها الولايات المتحدة لها. فهل نحن اليوم ازاء هذا الانقلاب التاريخي في تغير قواعد اللعبة، اذا كان تسلسل المواقف الأوروبية منذ عهد باراك أوباما يشير الى تقدم الاتحاد الأوروبي لامتلاك زمام المبادرة، والاهم الصدام مع الإدارة الأميركية كما يبدو اليوم لتحديد القواعد التي يتوجب على هذه الإدارة الالتزام بها في مقاربة حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتسوية القضية الفلسطينية؟.
ولعل باراك أوباما في وقت متأخر من ولايته وكما لاحظنا هنا لخشيته من حماقة وتهور او عدم مسؤولية دونالد ترامب، ذهب الى حد الرهان على أوروبا وتسليمها الملف حين شجع فرنسا وأوروبا على المضي في عقد المؤتمر الدولي للسلام، بحضور وزير خارجيته وما رافق ذلك تمريره في مجلس الأمن لقرار 2334.
وربما حان الوقت وكل الدلائل تشير الي ذلك ان هذا التحول قد بلغ مداه او ذروته، بعد ان اصبح واضحاً أن ترامب فشل فيما ادعاه عن بطولته وعبقريته وتفرده في التوصل الى الحل الجذري الذي ينهي هذه المأساة، وان ما اقدم عليه مؤخرا كان كارثة قد تفضي اذا سمح لهذه الخطوة ان تمر، لا ان تقضي على فرص تحقيق السلام وانما انهيار النظام او المنظومة العالمية في قلب مبنى هذا النظام، احترام القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.
وان هذا التهديد غير المقبول والوقح والسمج في الواقع الذي تم باسلوب اقرب الى الاستهتار والاستخفاف بالعالم، هو الذي يملي على اوروبا الآن التصريح الواضح على مستوى اللغة في تحديد مواقفها من حل الدولتين، وكذلك مصير القدس كعاصمة لكلا الدولتين على حدود حزيران 1967. ان مصطلح القدس الشرقية هنا هو ما أصاب نتنياهو وجماعته بالفزع والرعب، والذي يعني العمل الأوروبي على إلغاء مفاعيل قرار ترامب الاعتراف الأحادي بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل.
وقد يبدو اليوم ان هذا السيناريو الذي دفع إليه ترامب في التصدي لأصعب نقاط النزاع، أي مصير القدس التي اصطدمت بها ادارة كلينتون وأفشلت محاولته في مفاوضات كامب ديفيد، ولكن هذه المرة بالاعتراف بالحقائق الفلسطينية الصلبة للصراع وهو ان أُس المشكلة هو الاحتلال وعدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، وهذا يعني الاعتراف او التصريح المقابل ان القدس الشرقية هي عاصمة دولة فلسطين.
ولو كان هذا رجلا حصيفا لاتخذ موقفا تاريخيا حقا بان ارفق الاعتراف بالقدس الغربية في هذه الحالة كعاصمة لاسرائيل، والقدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية العتيدة على قاعدة حل الدولتين. وربما هذا التصريح الذي أعلنته أوروبا لا يزال الوقت ممكنا لترامب التصريح به من اجل خروج هذه الإدارة من الورطة بل المأزق الذي وصلت إليه اميركا. وإن أميركا هي أقوى دولة في العالم، والفلسطينيون هم اضعف أطراف العائلة الدولية لكنهم هم اليوم القادرون على إلهام العالم بوضع الفيتو على أميركا ان تكون وسيطاً.
ولعل ما يحدث من إجماع العالم ضد أميركا ان شعورا قويا بضرورة إعادة تصحيح الدور الأميركي السابق والمنحاز بات ملحا، وان ما يحدث كذلك ربما ينظر إليه في المستقبل على انه نوع من التفاوض الساخن في الصراع لا على تقرير مصير القدس، وإنما على مصير الدولة الفلسطينية وإنهاء آخر احتلال في التاريخ المعاصر.