الحديبية ..محمـد يوســف الوحيــدي

الخميس 14 ديسمبر 2017 02:28 م / بتوقيت القدس +2GMT
الحديبية ..محمـد يوســف الوحيــدي



لم يكن قبول رسول الله عليه الصلاة و السلام ، بشروط صلح الحديبية وليد اللحظة ،  أو نتيجة لرد فعل محدود بإطار زماني و مكاني و إملاءات ظرف .. فكثير من أصحاب أُحُد ، الذين جلجلوا الأرض و قعقعوا فيها و رفعوا السلاح و توعدوا الأعداء بالزلزلة و الأهوال ، كانوا هم ذاتهم من ترك مواقعه ، و أغرته منافع الدنيا و هُرع إلى لملمة ما تبقى من متاع و أموال و ذهب ، تاركاً مسرح العمليات لخالد بن الوليد و كتائبه ، ليمخروا عبر صفوف المسلمين و يذيقوهم درساً ، كان من الأهمية بمكان ألا يتوقف عنده الرسول الأكرم عليه الصلاة و السلام فقط ، بل تتوقف عنده الأمة المسلمة في كل جيل و في كل زمان بالبحث و التأني و إستخلاص العبر .. فرسول الله ، لم يكن نبياً مرسلاُ و حسب .. و إنما كان قائداً سياسياً و عسكرياً لأمة في طور التحرر و التكوين .. كان يقود جيلاً يقع على عاتقه تشكيل  ملامح مختلفة جداً عن ملامح موروثة و مفاهيم ثابتة و منقوله و أعراف راسخة ، كان عليه الصلاة و السلام يبني أمه لتعرف كيف تعيش ، و تُعمَّر إلى آخر الزمان على سطح الأرض ، و تحتل مكاناً بين الأمم .

علمنا ألا نستمع و نصدق غثاء و بيانات المُفَوّهين من أصحاب الطبول و الدفوف .. الفارغين من أي مضامين ، و أصحاب البريق في الإعلام  و التحليلات و البرامج الفضائحية الفضائية  ، البارزين فقط في ميادين التهليل و الرقص و الإستعراض و الحشد و التظاهر و لبس الأزياء و فرقعات الأفراح ، و إستعمال و إجتزاء كلام الله لصياغة سياساتهم و تبرير مواقفهم .. و ربما كانت الصورة المروية ، المثيرة للإستغراب و الداعية إلى التأمل طويلاً  و التوقف أمام ذلك المشهد الذي يرفض فيه عليٌ بن أبي طالب عليه السلام ، وهو من هو في آل الرسول ، أمر رسول الله بمحو ( بسم الله الرحمن الرحيم ) من رأس الوثيقة .. فمما رواه مسلم في صحيحه: أمر رسول الله – عليه الصلاة و السلام - علياً بن أبي طالب  رضي الله عنه أن يكتب (هذا ما قاضى عليه مُحـمّد رسول الله، فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله .. تابعناك ، لكن أكتب مُحـمّد بن عبدالله. فأمر الرسولُ علياً أن يمحاها، فقال عليٌ : لا، والله لا أمحاها، فقال رسول الله – عليه الصلاة و السلام -: ( أرني مكانها )، فأراه مكانها فمحاها، وكتب ابن عبدالله) ..

·        عَـلًمَنا عليه الصلاة و السلام ، ألا ننجرف وراء أصحاب النزق الثوري الرومانسي ، و إن كانوا صادِقين ،و غيرهم من المتهورين المغامرين ..

·        علمنا عليه الصلاة و السلام ، أن بين صفوف الأمة ضعيف الإيمان ، و المنافق ، و صاحب المصلحة و المؤسسة المرتبطة بمواثيق و عقود هنا أو هناك ، و المدعومة بالمال و النفوذ ، المأمورة ببث مفاهيم و سلوكيات متغطية بشعارات برّاقة ، من زينة الشيطان ، المغلفة بحقوق الإنسان و حقوق المرأة و الحيوان و المثليين ، و الحق في الحياة و الحق في التعبير  و رفض التطرف حتى أصبحت الصلاة و الصوم و الإلتزام صورة من صور التطرف ، و رفض العصبية و العرقية  حتى أصبح الإيمان بالقومية و الوطنية ، و الأخوة في الله صورة من صور التمييز العنصري و الفوقية المقيتة ، وكله بثمن..  و في الأمة الحالم غير الواقعي ، و الكسول ، و الصادق و الكذاب ،و الضعيف و القوي .. و أن أي قرار في شأن ألأمة ، يجب أن يأخذ بالحسبان كل هذه المكونات ، و يقيس مدى بلوغ الهدف إرتكازاً على مقومات ووسائل الأمة في وصول الهدف ..

·        علمنا عليه الصلاة و السلام أن لا نركن إلى الدعاء بالنصر ، لأن الله لا ينصر إلا مستنصراً أثناء العمل ، لا ينصر الساجد الزاهد القاعد .. و إن أخلص التعبد و القصد .

كان رسول الله عليه الصلاة و السلام ، يَعلم ، و الله تعالى أعلى و أعلم ، كان يَعلم بالقياس ، و مذاكرة تركيبة أمته ، و تصنيفها و معرفة مُقدراتها و مكامِن قوتها و ضعفها و قدرتها على مواجهة الأعداء من عدمها ، أنه لو رفض الحديبية، ربما سيسحق و من معه ، و ستنتهي الرسالة  أو على أقل تقدير سيغامر بأرواح و ممتلكات و منافع و مصالح الشعب معه ، بغير فائدة أو مكسب ، و ربما حتى بغير رضى الله ، لأن الله تعالى هو الذي أمر بأن ( و أعدوا لهم ما إستطعتم ) كقاعدة أساسية تسبق أي قرار بالمواجهة ، كان الرسول القائد عليه الصلاة و السلام يعرف أنه لو أمر المسلمين برفض ما جاءت به قريش ، و رفض ما وصفه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ب ( الدنية ) في الحوارية الشهيرة التي دارت بينه و بين رسول الله حينها ، فقام يحتج ويراجع النبي – عليه الصلاة و السلام - ويقول له: (ألست نبي الله حقا؟ قال: ( بلى ). قال أَلسنَا على الحق وعدوُنا على الباطل ؟ قال: ( بلى ) قال: فَـلِمَ نعطي الدَنِيــَـة في ديننا؟ قال: ( إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري). قال: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: (بلى، فأخبرتك أنَّا نأتيه العام؟) قال: لا. قال: (فإنك آتيه ومطوف به ) ... أن الدنية ليست في قبول الشروط ، بل في المواجهة الخاسرة غير المتوازنة ولا المحسوبة ضمن ظرف معاكس و معطيات غير متكافئة .. وقد كان ، أن عاد رسول الله  ومن معه ، بل وقبل عودتهم ، و رغم حالة الحنق و الرفض الشعبي العارم ، في صفوف المسلمين ، يشاء الله أن يبتلي المسلمين، ويظهر غضبهم لله، وحميتهم لدينه، ويمتحنهم في وفائهم بعهدهم، فبينما هم يعقدون الصلح يهرب إليهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، وهو مقيد، وكان قد عذب في الله عذابًا شديدًا، فأراد النبي – عليه الصلاة و السلام - من أبيه ( وكان مع المسلمين حينها ) أن يجيزه له ( أي يسلمه إياه  ليعيده إلى المشركين ) فرفض. أمام هذا التحدي لمشاعر المسلمين، لم يملك النبي – عليه الصلاة و السلام- إلا الثبات على الوفاء بالعهد، حتى و إن كان مع الكفار ، وتبشير أبي جندل رضي الله عنه بالفرج من الله، فقال له: ((يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله عز وجل جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه، وإنا لن نغدر بهم )) لقد أثار هذا الموقف حفيظة المسلمين لأخيهم في الله، وامتحنوا فيه أعظم امتحان، ولكن سيطر عليه ضبط النفس والتعقل والوفاء بالعهد وقد كتم الصحابة رضوان الله عليهم ما اعتلج في صدورهم من الغيظ، وما آلمهم، ولكنهم و بعد عودتهم إلى المدينة ، و رؤيتهم للواقع على الأرض ، و إنشغالهم بخطة النبي – القائد – عليه الصلاة و السلام ، في بناء المؤسسات ، و المقومات السليمة ، و التي ستعطي نتائج أعلى في الإستعداد ، بنسبة أقل من النفاق و الفساد ، و الحنجورية الفارغة ، و بنسبة أعلى من الإخلاص في العمل و التعليم و الزراعة ، و إعداد القوات و الجيوشىو الأخذ بأسباب رضى الله تعالى من التقرب له بالعبادة و العمل معاً  .. و بالتالي بنسبة أعلى من توفيق الله ، فكان الفتح بصورته التي تعد من أكثر المشاهد هيبة و قوة في التاريخ ، حين هبط المسلمون إلى مكة المكرمة من كل صوب و حدب ، مقنعين لا يعرف منهم أحد إلا بعينيه خلف لثام أسود ، يتقدمهم رسول الله قائداً لكوكبة من الصحابة ، معتمراً عمامة سوداء ، على خيول و مشاة ..