لماذا نحتفل بيوم الاستقلال؟ عبد الغني سلامة

الأربعاء 15 نوفمبر 2017 09:13 ص / بتوقيت القدس +2GMT



باستثناء بريطانيا، لكل بلد في هذا العالم يوم وطني، تحتفل فيه بذكرى تأسيسها، أو تحررها من الاحتلال، يسمى يوم الاستقلال.. وكل الشعوب تحتفل بذلك اليوم وقد تحررت، أو أنجزت بناء دولتها.. إلا الفلسطينيين.. الذين هم آخر شعب على الأرض ما زالوا يقبعون تحت الاحتلال المباشر.. ومع ذلك يحيون في الخامس عشر من تشرين الثاني كل عام يوم الاستقلال.. 
ومع ذلك أيضا، يتعامل البعض مع هذا اليوم بشيء من السخرية، أو الاستنكار.. فكيف نحتفل بالاستقلال، ونحن تحت الاحتلال؟ ولا نستطيع مغادرة قرانا ومدننا إلا بتصريح من الاحتلال؟ حتى أن هذا الاحتلال يتحكم في كل مقومات حياتنا، بدءاً من المياه والكهرباء والوقود، وحتى الهواء الذي نتنفسه!! وهذا صحيح بلا أي قدر من المبالغة. 
إذن، لماذا نحتفل؟ وما الجدوى من الاحتفال؟ وهذه تساؤلات رغم مرارتها، مشروعة ومبررة تماما.. وأي إجابة عنها، إذا ما انطلقت من زاوية سياسية أو أكاديمية مجردة، ستظل باردة، وغير مقنعة، ما لم تصاحبها جرعات من الخطابة الثورية والتعبوية.. السؤال: هل هذا ينتقص من الإجابة، أو يعيبها؟ الإجابة باعتقادي لا.. 
في واقع الأمر، لم تعرف الثورات الشعبية ولا حركات التحرر في العالم خطابا سياسيا دون أن ترافقه الشعارات الثورية.. وهذا أمر حسن، بل ومطلوب بشدة، شريطة أن لا تتحول الشعارات الثورية والتعبوية إلى بيع أوهام، أو متاجرة بالقضايا الوطنية، أو دغدغة جوفاء للعواطف.. الشعوب المناضلة تحتاج إلى من يبعث فيها الأمل، إلى من يحرضها، ومن يذكرها بواقعها، ومن يدفعها للخروج والمشاركة والانخراط في الفعاليات الكفاحية.. تحتاج إلى قائد ثائر، ملهم، يرفع قبضته غاضبا إذا لزم الأمر.. تحتاج ببساطة إلى تفعيل كل الرموز الوطنية لشحن هممها، وإبقاء جذوة النضال مشتعلة.. تحتاج إلى العَلَم، بقدر حاجتها للبرنامج السياسي.. تحتاج للشعار الثوري بقدر حاجتها للإستراتيجية الوطنية المبنية على أسس علمية واقعية.. تحتاج من يقنعها بحتمية الانتصار حتى في أحلك ظروفها.. 
في العام 1988، أعلن ياسر عرفات في دورة المجلس الوطني الفلسطيني المنعقدة في الجزائر قيام دولة فلسطين.. لم يكن لهذا الإعلان أن يحدث لولا تضافر مجموعة من الظروف والأحداث، إقليميا ودوليا، جعلت الخيارات الفلسطينية كلها تنصب نحو اتجاه واحد: تسليح الانتفاضة الشعبية بالقوة الجماهيرية والسياسية التي تتوج هذا النضال بإنجاز وطني يليق به.. خاصة بعد إعلان الأردن فك الارتباط بالضفة الغربية، وظهور بوادر انتصار شعبي، كان من المفترض أن يكلل بانتصار سياسي على مستوى أكبر، واقتناص اللحظة التاريخية التي أتاحتها الانتفاضة آنذاك.. بفرض استقلال فلسطين على المجتمع الدولي.. أي تحقيق خطوة أولى على طريق انتزاع اعتراف عالمي بوجود الشعب الفلسطيني، وترجمة هذا الاعتراف بالضغط على إسرائيل وإجبارها على الانصياع للشرعية الدولية، والانسحاب من الأراضي المحتلة، تمهيداً لقيام دولة فلسطين..
كان هذا ممكنا، وقريبا.. وحتى يحدث فعليا، كان لا بد من تلك الخطوة، والتي ستحتاج للدعم العربي والدولي.. والذي كان ممكنا أيضا تحقيقه، لولا الانقلاب الدراماتيكي الذي حدث مباشرة بعد ذلك على الساحتين الإقليمية والدولية؛ دوليا: بدأ المعسكر الاشتراكي بالتفكك، إلى أن انهار الاتحاد السوفييتي نفسه في غضون سنتين.. عربيا: اجتاح العراق الكويت، وبدأ مسلسل الانقسام والانهيار العربي، الذي لم يتوقف حتى الآن.. وبذلك تغيرت المعادلات السياسية كليا..
الثورة الفلسطينية تختلف بخصوصيتها وطبيعتها عن كل الثورات التي عرفها التاريخ.. لأن واقع الصراع مختلف، ومعقد، ومتشابك.. وأي قرار سياسي أو إستراتيجية تتخذها القيادة الفلسطينية سيكون لها انعكاسات أكبر على الساحة الدولية، وهنا، تكمن المشكلة: مفاتيح القوة وأدوات التغيير الحقيقية والفعالة ليست بأيدي الفلسطينيين.. إنها بأيدي الدول والشعوب العربية.. وكل ما كان وما زال يفعله الفلسطينيون هو مواصلة النضال على أمل أن يتحرك من بيدهم فعليا أدوات التغيير الفعالة.. أي مواصلة الكفاح بما هو متوفر من إمكانيات، وضمن ما تتيحه الظروف، أو ما يمكن تغييره منها.. لذلك، لم تكن أزمة الكفاح الفلسطيني في القيادة، ولا في مستوى الدعم والإسناد الشعبي (رغم أهمية هذين العاملين)؛ بل بعدم امتلاك المفاتيح الحقيقية التي تغير في المعادلات السياسية الكونية.. لذلك أيضا، ثمة رأي مفاده أنه لو أن الفلسطينيين حظوا بأفضل قيادة على مر التاريخ، ولو أنهم عن بكرة أبيهم شاركوا بكل قوتهم في النضال، لما أمكن لهم حسم الصراع كليا، وكل ما كان لهم تحقيقه هو تقليل بعض الخسائر، وتحسين بعض الظروف، وتفادي بعض الأخطاء القاتلة، وإجبار العدو على تقديم تنازلات أكثر..  
تغيرت الظروف التي كانت قائمة إبان إعلان الاستقلال، وتراجع الوضع العربي والدولي، وصار الاستقلال أبعد.. ماذا نفعل؟! نتخلى عن هذا الهدف؟ نوقف الاحتفال بهذا اليوم، لأننا بتنا موقنين أنه صار بعيد المنال؟ كيف نقنع العالم أننا نستحق الاستقلال، إذا كنا نحن غير مؤمنين به؟ أو ألغيناه من قاموسنا؟
إقامة دولة فلسطينية وتحقيق الاستقلال الوطني بالمفهوم السياسي المطروح حاليا ليس أمرا مستحيلا، بل هو من الممكنات السياسية، التي ستحدث حتما.. ولو بعد حين.. أما تحرير كل فلسطين، بالمفهوم المستقر في الوجدان العربي والفلسطيني فيحتاج معركة كبيرة، لا تتوفر أشراطها الآن، ولا يبدو في  الأفق ما يشير إلى توفرها..   
لذلك أيضا، لا يعيب الفلسطينيين أن تحقيق الاستقلال الحقيقي لم يُنجز رغم مرور 29 عاما على إعلانه.. فهذا الشعب لم يتوقف يوما عن النضال وتقديم التضحيات.. وما زال مصرا على إنجاز استقلاله الحقيقي، ونيله الحرية التي ناضل من أجلها.. 
الأهم، أن يظل هذا الشعب مؤمناً بإمكانية الانتصار والاستقلال ودحر الاحتلال.. فأول درس تعلمناه في «قواعد المسلكية الثورية»، عبارتان: «الإيمان بحتمية النصر»، و»الاستعداد الدائم للتضحية».. تلك كانت أول دروس «فتح» لمن نسيها. 
الاحتفال بيوم الاستقلال هو ممارسة فعلية لشعار الإيمان بحتمية النصر.. وإذا فقدنا هذا الإيمان، لن يمكننا تحقيق شيء.. فاليائسون، والمرتجفون لا يصنعون نصراً.