تصفية آثار جهيمان...عبد الغني سلامة

الأربعاء 18 أكتوبر 2017 02:16 م / بتوقيت القدس +2GMT
تصفية آثار جهيمان...عبد الغني سلامة



حدد الكاتب والروائي «تركي الحمد» العام 1979 عاما مفصليا في تاريخ السعودية (المجلة 2009)، موعزا ذلك لتزامن ثلاثة أحداث وقعت ذلك العام، أثرت على المنطقة سياسيا واجتماعيا؛ أولها الثورة الإيرانية، وثانيها الغزو السوفييتي لأفغانستان، وثالثها اقتحام «جهيمان العتيبي» للحرم المكي. معتبرا أن هذه العوامل حفّزت انطلاقة ما عُرف بالصحوة الدينية.. حيث أدت الثورة الإيرانية إلى تأجيج الصراع السعودي/الإيراني؛ الدولتين اللتين تعتمدان الدين أساسا لنظاميهما، ما دفعهما لتشجيع الخطاب السياسي الديني والاتكاء عليه؛ السعودية دعمت المؤسسات الدعوية في الخارج، ودعمت الإسلاميين في الداخل، أما إيران، فأعلنت تصدير الثورة. في حين دفع الغزو السوفييتي لأفغانستان آلاف الشبان العرب (ومنهم سعوديون) للالتحاق بِـ «الجهاد الأفغاني».. ولكن، ماذا بشأن اقتحام جهيمان للحرم المكي، ومدى تأثيره في المجتمع السعودي؟!
يرى «الحمد» أن المجتمع السعودي قبل ظهور جهيمان، كان منفتحاً متسامحاً، ولم يكن بهذا الشكل من التعصب والانغلاق، ولم يكن حادًّا في قضية المرأة والاختلاط والفصل بين الجنسين، كما كان متقبلا لحرية الآخر الدينية والتنوع الطائفي، وكان الناس يمارسون حياتهم وفق تعاليم الإسلام السمحة، دون أيديولوجيا إسلاموية تُحمّل الدين ما لا يحتمل.. 
فإلى أي مدى كان المجتمع السعودي منفتحا؟ ومن هو جهيمان؟ وهل فعلا أثر في المجتمع إلى هذه الدرجة؟
إذا كانت التغيرات الاجتماعية والسياسية التي أسموها «الصحوة الدينية» قد بدأت تظهر بوضوح أشد في السعودية ابتداءً من الثمانينات؛ فإنه من السطحية إرجاعها إلى حادثة جهيمان (1979)، وإغفال بقية العوامل.. فمن جهة، لم تكن ظاهرة جهيمان قطعا تاريخيا عما سبق، ولم تنبثق فجأة من العدم، وكل ما تحمله من معتقدات وقيم وأفكار هي أصلا موجودة، بدرجة أو بأخرى، بل وتضرب جذورها عميقا في الموروث الثقافي والاجتماعي السعودي. كما أن الصحوة الدينية كانت أكبر إقليمياً من حدود السعودية ومن جهيمان، وأقدم زمنيا من ذلك، فالقرن العشرون شهد صحوات دينية عديدة، بدأت أقل خفوتا، ثم تصاعدت فيما بعد. ومن جهة ثانية؛ فإن مقتل جهيمان وأنصاره لم يؤدِ إلى اجتثاث أفكاره وما كان يدعو إليه، بل بالعكس، أخذت تنمو وتكبر، وتهيمن على المجتمع.. وهذا يدعونا لتذكّر من هو جهيمان؟ 
في أول يوم من القرن الخامس عشر الهجري، قاد «جهيمان العتيبي» مائتي رجل من أتباعه، واقتحموا الحرم المكي بأسلحتهم، وبعد الانتهاء من صلاة الفجر، وقف أمام المصلين وأعلن أن الواقف بين يديه (وهو صهره: محمد عبدالله القحطاني) هو المهدي المنتظر، وأنه خرج ليملأ الدنيا عدلاً بعدما مُلئت جوراً... اعتصم جهيمان ورفاقه مدة أسبوعين، إلى أن اقتحم الأمن الحرم، وقتل معظمهم (ومنهم القحطاني)، وفيما بعد أعدمت السلطات من بقي منهم (وأبرزهم جهيمان).
كان جهيمان مغموسا بأحاديث آخر الزمان، ومهووسا بفكرة المهدي، وهو ذو ثقافة بسيطة، تلقاها على يد ابن باز، ولضحالة فكره، كان يظن أن الدنيا والزمن بأسره مختزلان في نجد، ولشدة تطرفه كان يعتبر كل ما تقوم به الدولة من تحديث وتنمية إنما هو فسق ومنكر يجب محاربته، بما في ذلك التلفزيون والمجلات والإذاعة والفنون، وحتى الجامعات، والاستعانة بالنصارى في الصناعات... 
يغلب على المجتمع السعودي طابع البداوة، لكن مدنه وحواضره تطورت بصور مختلفة ومتسارعة بعد إنشاء المملكة، وبمسارات متباينة، أحدها، مسار التطور المديني.. فنقرأ في مقال لفهد البياري (العربي الجديد) أنه «كان في مكة وجدة ومدن أخرى مغنيات سعوديات، وعازفات في فرق موسيقية. ربما يحتفظ أرشيف التلفزيون السعودي بأغنياتٍ لهن، وهن حاسرات. وكان التلفزيون السعودي يبث أغاني نجاة الصغيرة وفايزة أحمد وسميرة توفيق وغيرهن. وكان الملك فيصل يدفع باتجاه نهوضٍ في السينما والمسرح والغناء». 
لكن هذا المسار تعرض لضربات متوالية، على يد النظام والمؤسسة الدينية، إلى أن تلاشى تقريبا، أو كاد. فبعد إعدام جهيمان صدر أمر ملكي يمنع النساء من الظهور في التلفزيون في شهر رمضان، ثم قصر المنع على المغنيات. 
بيد أن مظاهر المسار المديني لم تكن مقتصرة على الغناء والفنون وأحواش السينما في جدة؛ بل إن أهم وأخطر تمظهراته تمثل في صعود تيارات شعبية لا تخضع للمنظومة الأيديولوجية للنظام: ليبراليون، ناصريون، شيوعيون، بعثيون، اشتراكيون، إضرابات، واحتجاجات شعبية، ومشروع نقابات عمالية في آرامكو.. أما ردة فعل الحكومة، فلم تقتصر على قرار حجب المغنيات.. بل تمثلت في إستراتيجية منظمة ومتصاعدة،  شملت سلسلة من التحريمات والتضييق على الحريات العامة، وإعطاء مزيد من الصلاحيات لهيئة الأمر بالمعروف.. وهذه الإستراتيجية بدأت فعليا منذ تحالف الملك المؤسس مع الشيخ ابن عبد الوهاب، وأخذت بعدا تنظيميا في مطلع الخمسينيات، بتكوين مجموعة من المعاهد الشرعية في أرجاء المملكة، والتي توجت بإنشاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 1976، التي كان يتم تضخيمها وتدعيمها باستمرار.
ما حصل فعليا بعد حادثة جهيمان، هو انتصار للتيار الديني المتشدد، وتراجع مظاهر الحداثة والتطور المديني، بسبب ضعف تجذّر الأشكال الفنية الحديثة في المجتمع السعودي، وعداء التيارات الدينية المحلية على أنواعها للفنون، واستقوائها بالدولة.. أو بعبارة أخرى، ازداد التشدد، ورُفضت الفنون وقيم الحداثة بسبب غلبة الثقافة البدوية على تركيبة وذهنية المجتمع، وحداثة عهدهم بالمدينية، وهذه ردود فعل متوقعة للانتقال بخطى متسارعة من الحياة البدوية البسيطة إلى الحياة المدنية المعقدة. 
السعودية التي صدرت الفكر الوهابي المتزمت، وكانت مثالا للمجتمعات المنغلقة المحافظة، تتخلى الآن عن كل هذا، تسمح للمرأة بالسواقة، تذيع قناتها الرسمية الأغاني، وقد ابتدأتها بأم كلثوم، وتستضيف فرقة البولشوي، تلتقي بوتين، تعين امرأة حاسرة الرأس متحدثا رسميا لسفارتها في أميركا.. واللافت للنظر أن المؤسسة الدينية الرسمية تستجيب لكل هذه التطورات، وتبررها.. والبعض يقول، إنها تصفي آثار جهيمان وتركته الثقيلة.. 
إذا أريد حقا إصلاح ما أفسدته طوال العقود الماضية، فإن الإصلاح يأتي بمعرفة ودراسة الإسلام الحقيقي ! والخطوة الأولى التخلص من هيئة الأمر بالمعروف، واستبدال علماء السلاطين بعلماء ومفكرين حقيقيين، والبدء بإصلاح العقول.