مسارات الحل في ليبيا ما زالت في بداياتها..عبير بشير

الثلاثاء 29 أغسطس 2017 04:11 م / بتوقيت القدس +2GMT



مع سقوط نظام القذافي، عقب تدخل حلف الناتو عسكرياً تحت غطاء قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973. سقطت ليبيا في دائرة الفوضى العارمة والصراعات المسلحة بين القبائل والمناطق، وتفككت الدولة الليبية المركزية، وغابت الرقابة الحكومية على شواطئ ليبيا الطويلة التي تحولت إلى ممرات مفتوحة لأفواج المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا، ووجدت الجماعات الإرهابية، من "القاعدة" إلى "داعش" إلى الجماعة الليبية المقاتلة في ليبيا، مرتعاً وأرضاً خصبة لها، وأصبح الإرهاب الليبي عابراً للحدود ويضرب في العمق المصري ويهدد الجزائر ويتجه إلى أوروبا بأسرها.
وعلى وقع ذلك، تتحرك القوى الدولية و دول الجوار الليبي بكثافة في الوقت الحالي من أجل إخراج ليبيا من دائرة النار، ودفع الليبيين إلى الحوار والتوافق، بغية التوصل إلى تسوية للأزمة الليبية التي أصبحت تقلق المجتمع الدولي بشكل كبير، وبعد أن أدركت جميع الأطراف الفاعلة أن الحسم العسكري شبه مستحيل وأن الحل في ليبيا لا يمكن إلا أن يكون سياسياً. 
تحركات مفادها بضرورة وجود تنسيق عالي المستوى بين اللاعبين الإقليميين في الساحة الليبية لإيجاد حل سياسي لأنها الدول التي تمتلك الفاعلية الأكبر في حل الأزمة الليبية، وهي المتضرر الأكبر لما يحدث في جوارها من فوضى مسلحة، ولم تعد تحتمل إطالة أكثر لفاتورة الوضع الليبي؛ لأن المشكلة الحقيقة في ليبيا في المغرب العربي– كما في سورية في المشرق– هي كثرة اللاعبين الإقليميين والدوليين - مصر والجزائر وتونس والإمارات العربية وقطر وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وتضارب أجنداتها وإستراتيجياتها– حيث إن تعدد الأطراف المؤثرة في المشهد الليبي يعقد الحل، لأن كل طرف يريد حصته كاملة من النفوذ والسيطرة والأهم النفط والثروة، بالإضافة إلى الميليشيات الليبية والتشكيلات القبلية والجهوية المتناحرة والقوى السياسية المتنازعة وهي تتمثل حالياً بحكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج التي تقتصر سلطتها فقط على معظم إقليمي طرابلس وفزان، والتي انبثقت عن الاتفاق السياسي الليبي الذي تم توقيعه في مدينة الصخيرات المغربية عام 2015، بإشراف بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، والجيش الليبي الوطني بقيادة خليفة حفتر المدعوم من برلمان طبرق وكتائب مصراته وحلفائها، بالإضافة إلى– وروسيا ومصر، والتي باتت قواته تسيطر على مناطق واسعة في شرق ليبيا، وعلى معظم مناطق الهلال النفطي والعديد من القواعد العسكرية والمطارات الجوية، وطبعاً بوجود كبير وخطير للجماعات الإرهابية من أمثال "القاعدة" و"داعش". 
وبالتالي فإن حظوظ نجاح أي اتفاق تبقى متواضعة لقدرة أي طرف على التخريب إذا ما شعر بأن مصالحه يجري تجاوزها لصالح أطراف أخرى، عبر وكلائه الليبيين. وتسري حالة من الغموض من موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الأزمة الليبية، حيث لم يعلن بعد سياسة واضحة تجاه ليبيا، واكتفى بالقول: إنه لا يرى دوراً للولايات المتحدة في ليبيا غير إلحاق الهزيمة بتنظيم "داعش" والجماعات الإرهابية. ولكن يبدو أن إدارة ترامب الحالية لم تتخل عن إستراتيجية الإدارة الأوبامية السابقة الخاصة بالتحكم في مسار الأحداث بليبيا دون التدخل مباشرة، خصوصاً أن الولايات المتحدة تعتبر ذلك منصة مناسبة لتدخل بشكل أو بآخر في منطقة المغرب العربي ودول الساحل الإفريقي. 
وأتى في هذا الإطار لقاء السفير الأميركي لدى ليبيا بيتر بودي، الذي يعمل من مقر له في تونس عقب مقتل السفير الأميركي السابق في بنغازي، والجنرال توماس والدهاوزر قائد القيادة الأميركية في أفريقيا مع السراج. ومصر أيضاً لاعب رئيس في الساحة الليبية نظراً للجغرافيا السياسية، والحدود الطويلة التي تربطها في ليبيا، والتي أصبحت ممرات للإرهابيين تشكل خطراً كبيراً على أمن مصر القومي، ما دفع مصر إلى شن سلسة من الهجمات الجوية على معاقل تلك التنظيمات ومراكز تدريبها في العمق الليبي. 
وفي موازاة ذلك، تتواصل الجهود المصرية الدبلوماسية المكثفة مع كافة الأطراف الليبية والدولية من أجل إحداث نقلة نوعية في الملف الليبي، قوامها تقاسم السلطة والثروة النفطية ورسم مستقبل ليبيا. وبالنسبة للجزائر، فإنها تعتبر نفسها أحق وأجدر بقيادة الملف الليبي، واستقرار هذا البلد الجار يهم الجزائر بدرجة كبيرة، وقد لعبت الجزائر دوراً كبيراً في التوصل إلى اتفاق الصخيرات. 
وحالياً تقود الجزائر سياسة أكثر انفتاحاً على الجنرال خليفة حفتر مع سيطرة جيشه على أكبر قاعدتين جويتين في الجنوب، إحداهما تتاخم الحدود الجزائرية، من أجل التنسيق معه أمنياً وعسكرياً لحماية حدودها، خاصة من جانب الجنوب الليبي الذي يعج بالجماعات الإرهابية التي يقودها مختار بالمحتار – العدو الأول للجزائر. وجاء في تقرير لصحيفة "لوبوينت أفريك" الفرنسية أن على المصريين والجزائريين الوصول إلى اتفاق حول دور المسلحين الإسلاميين في حل الأزمة الليبية، وفي حال لم تتفق هذه الأطراف لحسم هذا الجدل، فلن يتم التوصل إلى حل بشأن الملف الليبي. أما فرنسا – التي قادت التحركات الدولية للإطاحة بنظام القذافي في عهد ساركوزي - فإنها تلقي أيضاً بثقلها لحلحلة الأزمة الليبية، وإحداث ثغرة في الجمود الذي يجتاح المسار السياسي، ونجح الرئيس ماكرون في جمع قطبي الحالة الليبية (السراج وحفتر) في فرنسا، وأعلن بيان مشترك أنه جرى الاتفاق على اعتماد الحل السياسي للنزاع، ووقف إطلاق النار مع استمرار الحرب على الإرهاب، والتوافق على إجراء انتخابات تشريعية خلال العام القادم، ودمج المقاتلين الراغبين في الانضمام للجيش الليبي، على أن يتم تسريح الآخرين وإعادة دمجهم في الحياة المدنية وأكد البيان أن لقاء باريس جاء استكمالاً للقاءات سابقة عقدت في أبو ظبي والقاهرة والجزائر. 
وأعلنت الرئاسة الفرنسية أن ماكرون أجرى اتصالاً بمبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا، غسان سلامة، تناولا خلاله الوضع الليبي في ضوء الجولة التي قام بها سلامة في ليبيا. وأكد ماكرون فيه أهمية الإبقاء على الديناميكية التي أطلقها اجتماع السراج وحفتر تحت إشراف الأمم المتحدة، إضافة إلى التمسك بخريطة الطريق التي تم تبنيها خلال هذا الاجتماع. وتبدو باريس وكأنها تجاوزت عقدة تمثيل حفتر وتوجهت إلى خيار إشراكه مباشرة في حل الأزمة الليبية بدلاً من التنسيق معه سراً، وهي أعطت شرعية له من خلال دعوته للقاء السراج. التحرك الفرنسي الجديد ينطلق مما تصفه صحيفة "فيغارو" بتأييد ماكرون للتوجهات البراغماتية لوزير خارجيته وهو وزير الدفاع السابق التي تأخذ بالاعتبار وقائع الميدان في ليبيا وتوزيع القوى على الأرض، وترى في خليفة حفتر رأس الحربة في مواجهة الجهاديين، ويرى مراقبون أن النزاع الخليجي الذي طال دولاً فاعلة في المشهد الليبي، منح الدبلوماسية الفرنسية هامشاً للتحرك. لكن إيطاليا -التي استعمرت ليبيا سابقا- تبدو قلقة ومستفزة من التحركات الفرنسية، وصول فايز السراج إلى إيطاليا بعد فرنسا ثم إعلان روما اتفاقاً معه يسمح بدخول القوات البحرية الإيطالية إلى المياه الإقليمية الليبية بحجة مكافحة الهجرة غير شرعية، أرادت إيطاليا من ورائه أنها تقول: إنها موجودة بقوة ولا يستطيع أحد أن يتجاوزها، وهي تسعى أن تضع أقدامها في المياه الليبية لتصبح أمراً واقعاً وقانونياً وطرفاً قوياً لا بد من التفاوض معه في الترتيبات الدولية لمستقبل هذا البلد. وقال وزير الدولة الإيطالي للشؤون الأوروبية ساندرو غوزي: إن على فرنسا ألا تكرّر في ليبيا الأخطاء التي ارتكبتها في الماضي (تدخل الرئيس الأسبق ساركوزي للإطاحة بالقذافي)، ونبه غوزي إلى أن التزام ماكرون في الأزمة يجب أن يكون جامعاً ويستند إلى علاقة خاصة مع إيطاليا وهذا بيت القصيد. وكان لافتاً ما ذكرته صحيفة" لاريبوبليكا " الإيطالية أنه سيكون صعباً على إيطاليا أن تشرح لشركائها الفرنسيين أن حلاً بسيطاً يضع حفتر في محور كل شيء كما تريد روسيا ومصر والإمارات، ليس أمراً مرادفاً للنجاح. وعلى كل حال فإن ما يجري اليوم في ليبيا ليس أكثر من إخفاء صدوع بين المتنافسين الكبار، وسرعان ما يعود للظهور عند أول خلاف بينهم. ولكن لا بديل وباعتراف جميع الأطراف المسار السياسي مهم ولكنه سيتطلب الكثير من الوقت والإرادات وإنضاج ظروف الحل والتسوية إقليمياً ومحلياً.