الذكرى المئوية الأولى لصدور وعد بلفور المشؤوم.. د. عاطف شعث

الإثنين 21 أغسطس 2017 05:01 م / بتوقيت القدس +2GMT



 

تحل قريبا الذكرى المئوية الأولى لصدور وعد بلفور المشؤوم Balfour Declaration ذلك الوعد الذي جاء على شكل تصريح في رسالة موجهة من قبل وزير خارجية بريطانيا آنذاك، آرثر جيمس بلفور إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد بتاريخ 2 نوفمبر 1917م إن حكومة صاحب الجلالة ترى بعين العطف تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي فى فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وذلك بعد مفاوضات استمرت ثلاث سنوات دارت بين الحكومة البريطانية من جهة واليهود البريطانيين والمنظمة الصهيونية العالمية من جهة أخرى، حيث استطاع من خلالها الصهاينة إقناع بريطانيا بقدرتهم على تحقيق أهدافها والحفاظ على مصالحها في المنطقة.

هذا الوعد هو إحدى نتائج المخططات الاستعمارية حيث سبقه اجتماعا لسبع دول أوروبية استعمارية عام 1907 والذي دعى له رئيس وزراء بريطانيا أنذاك هنري كامبل بنرمان، حيث اتفقوا على زرع جسم غريب في المنطقة العربية يكون ولاؤه للغرب ويهدف إلى فصل المشرق العربي عن المغرب العربي أي إقامة الدولة العازلةBuffer State ، عدوة لشعوب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية، كما يهدف الى خلق حالة من اللاتوازن في المنطقة مما يعيق عملية التنمية في المنطقة العربية، ويعطل نهضة الأمة العربية، ويبقي شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة، كما سبقته معاهدة سايكس بيكو عام 1916م بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية على اقتسام منطقة الهلال الخصيب لبن فرنسا وبريطانيا بعد تهاوي الدولة العثمانية.

ويعد وعد بلفور الدعامة الأولى للكيان الصهيوني الغاصب ما يسمى دولة إسرائيل، استنادا على المقولة المزيفة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض والتي لم تكن وليدة الصدفة بل وردت في الأعمال الأدبية منذ عصر النهضة، وروجتها الحركة الصهونية للاستفادة السياسية في تحقيق أهدافهم في اقامة وطن لهم في فلسطين مستغلين المزاعم التوراتية. إن الأزمات الحالية المحدقة بالقضية الفلسطينية، وبقاء حالة التشرد والتهجير لنصف الشعب الفلسطيني في الشتات، والمجازر والقتل والتنكيل التى ارتكبتها الصهيونية وترتكبها دولة الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، والاستخفاف بالحقوق الوطنية والحضارية للشعب الفلسطيني، والمآسي التي حلت بالشعب الفلسطيني، ومحاولة طمس هويته الوطنية، وسرقة أراضيه وممتلكاته، وتدنيس وتدمير مقدساته ومعالمه الحضارية.

فكيف لبريطانيا احدى الدول العظمى والعضو الدائم في مجلس الأمن والمساهمة في وضع القوانين والشرائع الدولية والتي تتدعي الديموقراطية والعدالة والانسانية ومناصرة حقوق الانسان، أن تعتبر كل معاناة الشعب الفلسطيني المستمرة والمتواصلة لقرابة القرن من الزمان، والتهديد الاسرائيلي العسكري والامني والبيئي لكل شعوب المنطقة مجرد حدث وموضوع تاريخي، بل ما هي إلا النتيجة الطبيعية لوعد بلفور المشؤوم ذلك الوعد الذي يعتبره الفلسطينيون والمناصرون للقضية الفلسطينية وأحرار العالم وعد من لا يملك لمن لا يستحق ولا أحد يملك أن يكتب صك منح فلسطين لأي كيان ولا صك التخلي عن فلسطين، ولا يمكن لأحد أن يتنبأ باستقرار المنطقة دون حصول الفلسطينيون على حقوقهم الوطنية.

لقد كانت فلسطين مأهولة بسكانها في مدنها العريقة وريفها وقراها ولديها مؤسساتها الوطنية والدينية والتعليمية والاجتماعية والثقافية والنقدية وموانئها الجوية والبحرية ومجالسها المحلية وحقولها وبساتينها ومصانعها وتجارتها وعلاقاتها وأصولها الاجتماعية والديموغرافية المتجذرة، وقد كان تعداد اليهود في فلسطين حين صدور وعد بلفور لا يزيد عن 5 من مجموع عدد السكان، وقد أرسلت الخارجية البريطانية رسالة تصريح بلفور قبل أن يحل الانتداب البريطانى أصلا على فلسطين، فلم تكن فلسطين عند صدور الوعد جزءا من الممتلكات البريطانية وإنما كانت جزءا من الدولة العثمانية، وقد سمح أثناء الانتداب البريطاني بهجرات غير شرعية متدحرجة ومتدفقة إلى أرض فلسطين، وتمكين العصابات الصهيونية بالمال والعتاد والدعم العسكري والأمني والغطاء السياسي.

إن وعد بلفور يعتبر باطل اجرائيا وقانونيا وديموغرافيا ودينيا وحضاريا، وإن رفض بريطانيا الاعتذار عن وعد بلفور ما هو إلا هروبا من كشف حقيقة وجود الكيان الاسرائيلي الاحتلالي في فلسطين، و هروبا من فضح الأسس والأهداف والمصالح التي يقوم عليها الانحياز البريطاني لجانب دولة الاحتلال الاسرائيلي، وتنصلا من تحمل بريطانيا المسؤولية عن قرارها الذي لم يأت لا في السياق التاريخي ولا الإنساني ولا الحضاري، بل جاء في سياق استعماري محض. لقد شكلت سياسة الانتداب البريطاني في فلسطين انتهاكات وتجاوزات خطيرة بحق الشعب الفلسطيني وتنكر لوعود الحرية وتقرير المصير، وهو ما يعد مخالفة لصك الانتداب الممنوح لبريطانيا من قبل عصبة الأمم بشأن فلسطين، وانتهاكا صارخا لكل القيم الانسانية والقانون الدولي وحقوق الإنسان.

إن نتائج وآثار وعد بلفور المأساوية مازالت جاثمة فوق صدور الشعب الفلسطيني بأكمله متمثلة في اقامة دولة الاحتلال الاسرائيلي على 78 من أرض فلسطين، واستمرار واستكمال المشاريع الاستيطانية التوسيعية والتهويدية في الضفة الغربية والقدس، وتشريد ما يقارب 7 مليون من الفلسطينيين في الشتات قرابة سبعة عقود من الزمن غير قادرين على العودة الى أرض الأباء والأجداد بل حتى مجرد زيارة، والممارسات العنصرية ضد ما يقارب 2 مليون عربي فلسطيني يقطنون في الداخل المحتل في أرض الأباء والأجداد، ومحاولة مصادرة أراضيهم وتهويدها، والتنكيل وارتكاب المجازر وشن الحروب المجنونة المتكررة ومحاصرة وخنق ما يقارب من خمسة ملايين فلسطيني في غزة والضفة الغربية والقدس، ومحاولة تفتييت البنية الاجتماعية للشعب الفلسطيني.

إن دولة الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين تعني القوة العسكرية الضخمة المزودة بأعتى أنواع الأسلحة والتكنولوجيا الحديثة والمتفوقة في محيط الشرق الأوسط، إضافة الى مفاعل نووي واسلحة نووية تهدد المحيط العربي برمته، وإن الدعم السياسي والاقتصادي والتكنولوجي الذي تقدمه بريطانيا والولايات الامريكية المتحدة وبعض الدول الغربية ما هو إلا امتداد واستمرار لمخططات السيطرة والهيمنة على المنطقة العربية، وسلب خيراتها، ومنع نهضتها ووحدتها، ناهيك عن العبث الفكري في الثقافة العربية والقيم الاسلامية والتكوين النفسي والسلوكي العربي فإسرائيل والغرب أصبحوا من خلف الشاشات والمكاتب المغلقة يثيرون النعرات الطائفية والمذهبية ويحركون الفكر المتطرف من ناحية، والفكر الاستسلامي من ناحية ثانية، وخلق حالة الإغتراب لدى الشباب من ناحية أخرى.

وإن كنا نحن الفلسطيينين نمتلك الحق لكننا لا نمتلك القدرة في سرد الرواية بطريقة مؤثرة على الرأي العام العالمي ولا نمتلك القدرة في التأثير على صناعة القرار في السياسة الدولية، في حين فإن دولة الاحتلال لا تملك الحق لكنها تملك زيف الرواية وقدرة التأثير على صناعة القرار السياسي الدولي، كما وأننا مازلنا نتحدث لأنفسنا وبلغتنا وفكرنا، رغم ادراكنا مؤخرا لأهمية الساحة الدولية جماهيريا ومؤسساتيا ورسميا، وأصبحنا نتلمس قوة التأثير الدولي في نصرة القضية الفلسطينة وان لم تصل للحد الكافي. لقد بات من الضروري تدويل مشكلة وعد بلفور واعتبار ذكرى هذا الوعد هو سبب مأساة شعب فلسطين، وإقامة دعاوى قانونية ضد بريطانيا في المحاكم الدولية وعقد المؤتمرات والندوات لتبيان النكبات والمآسي التي حلت على الشعب الفلسطيني جراء وعد بلفور.

وأصبح من الضروري خلق ثأثير اعلامي فاعل يخترق الثقافة المجتمعية البريطانية والغربية بوجه الخصوص والعالمية بشكل عام لكشف تقاعس وتلكؤ الحكومات الغربية المهيمنة على السياسة والقرار الدولي عن انصاف الفلسطينيين في حقوقهم الوطنية والحضارية في وطنهم السليب نتيجة وعد بلفور الذي شكل سابقة فريدة في التاريخ وكشف الانحياز البريطاني بالذات والغربي بشكل عام لدولة الاحتلال الاسرائيلي، واستنهاض الضمائر الانسانية لدى شعوب العالم لحشد الرأي العام العالمي بضرورة معالجة وازالة آثار وعد بلفور، ووضع المؤسسات الدولية والهيئات الحقوقية والمنظمات السياسية والأحزاب التحررية واللبرالية أمام مسؤولياتها ودورها من أجل تلاشي تصاعد خطورة الإنفجار الفوضوي اللاثوري في حال استمرار الوضع القائم إزاء معالجة نتائج وعد بلفور الكارثية.