الرجل الذي منع تهويد غزة ! د. ناصر محمود الصوير

الأربعاء 09 أغسطس 2017 10:52 ص / بتوقيت القدس +2GMT
الرجل الذي منع تهويد غزة ! د. ناصر محمود الصوير




من الرجال الذين كانت لهم بصمة في تاريخ فلسطين الحديث وتحديداً خلال حقبة الاحتلال والانتداب البريطاني لفلسطين(1918-1948م) المحامي البارع والسياسي البارز/ فهمي عبد الحي الحسيني .... وهو من عائلة فلسطينية عريقة ولد في مدينة غزة عام 1886م، كان والده عبد الحي الحسيني من أكبر علماء فلسطين ورجالاتها وأبلغ خطبائها؛ أما والدته فهي حورية الدجاني من القدس.
اعتنى والده بتربيته عنايةً فائقة وتثقيفه تثقيفاً عالياً؛ نال الشهادة العليا في الحقوق من اسطنبول، وعاد إلى غزة وهو في ريعان شبابه ، فأسندت إليه وظيفة "مدع عام" ، ثم استقال منها واشتغل في المحاماة إلى أن نشبت الحرب العالمية الأولى 1914م.
عاد مرة ثانية إلى تركيا ومكث هناك مدة الحرب ، ثم رجع بعد انقضائها إلى فلسطين ، واشتغل في المحاماة حيناً ، بعد أن حصل من السلطات على رخصة مزاولة المهنة أمام المحاكم النظامية والمحاكم الشرعية بتاريخ 27/7/1920م ؛ عين "حاكم صلح" في نابلس ، وبعدها عين عضواً في المحكمة المركزية للواء الشمالي، ثم استقال ورجع إلى مزاولة مهنة المحاماة مرة أخرى، فأصبح من رجال القانون، والطبقة الأولى في فلسطين.
أصدر فهمي الحسيني "مجلة الحقوق" في مدينة يافا في الأول من ديسمبر 1923م، وكان النجاح الذي حققه فهمي الحسيني بإصداره مجلة الحقوق ، وتأسيسه مطبعة خاصة ، الدافع الرئيسي الذي حدا به إلى إصدار "جريدة صوت الحق" في مدينة يافا عام 1927م .
لقب فهمي الحسيني بــ(عملاق المحاماة في فلسطين)، كما قام بعمل كبير أثرى الواقع القانوني حيث قام بترجمة وتعريب مجلة "درر الأحكام في شرح مجلة الأحكام" للعلامة علي حيدر من اللغة التركية للغة العربية بأسلوب بليغ ورصين، وكان بحق مصدر فخر لمدينة غزة التي منحها كل نشاطه وجهده ؛ كما قام بصياغة وإعداد أول سند قانوني لإيجار الأراضي والعقارات واستئجارها وهو معمول به إلى يومنا هذا.
ألح عليه أبناء المدينة لخوض أول انتخابات بلدية في عهد الانتداب عام 1928م ، فرضخ لرغبتهم ورشح نفسه حباً في إصلاح المدينة، وفاز بأغلبية ساحقة أهلته لرئاسة بلدية غزة عن جدارة واستحقاق ليكون أول رئيس منتخب لبلدية غزة في القرن العشرين. نظراً للإنجازات الكبيرة التي حققها خلال فترة رئاسته الأولى للبلدية ، فاز في الانتخابات الثانية التي أجريت عام 1934م، واستمر في رئاسته للبلدية إلى أن اعتقلته السلطات البريطانية وأودعته معتقل صرفند عام 1938م، بصفته معارضاً لسياستها الاستعمارية ومناوئاً لممارساتها القمعية .
تميزت الفترة التي قضاها فهمي الحسيني رئيساً للبلدية بعزيمة جبارة ، وهمة شماء بالإنجازات قلبت مدينة غزة من حال إلى حال ، ونذكر من الأعمال التي قام بها : مشروع المياه بحيث لم يبق بيت في غزة إلا والمياه متوفرة لديه، وفتحه مدرسة للإناث ، وإتمام بناية المستشفى البلدي ، وإنشاء سوق كبير، ومسلخ على الطراز الحديث، وفتح الشوارع وتوسيعها، وعمل على إصلاح المدينة ، لقد فرض فهمي الحسيني احترامه على الجميع ، وهو وإن كان يمثل العائلات الإقطاعية المتنفذة كان يعي بأحوال الشعب فقوبل ذلك من شعبه بالاعتزاز والتقدير، كما قام بتوسيع الشارع الرئيسي الذي يشطر المدينة إلى شطرين ، وهو المعروف حالياً بشارع "عمر المختار" ... كان فهمي الحسيني من أصحاب الأملاك ، وقدم الكثير من أمواله في سبيل تحقيق إنجازات لصالح مدينته وشعبه ووطنه . سعى الحسيني للتخلص من تبعية البلديات الفلسطينية المطلقة لسلطة الانتداب البريطاني، معترضاً على كثير من قراراتها ورافضاً تنفيذ الكثير من الأوامر الصادرة عنها؛ ووجه النقد الشديد لسلطة الانتداب اتهمها بالعمل على تجريد البلديات من مواردها. كما شهد عهده تسمية مجموعة من شوارع المدينة بأسماء وطنية خصوصاً إطلاق اسم المجاهد "عمر المختار" على الشارع الذي كان يسمى بشارع "جمال باشا" ، وقد أغضبت هذه التسمية القنصل الإيطالي في القدس، فاحتج على هذا العمل، فاجتمع حاكم غزة بفهمي الحسيني، وطلب منه إلغاء التسمية، فرفض الانصياع وأصر على بقاء التسمية. كما أطلق البلدية في عهده أسماء أخرى لشخصيات وطنية عربية وإسلامية على عدة شوارع بالمدينة، كما لم يتوانى فهمي الحسيني عن بالمشاركة في جميع المناسبات والفعاليات الوطنية ، كما اتخذ الحسيني موقفاً وطنياً مسئولاً من مسألة مشاركة البلدية في الإضراب الكبير الذي أعلنته الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م، فقد أبدى تحفظاً على مشاركة البلديات في الإضراب حرصاً منه على عدم استغلال اليهود لإضراب البلديات للاستيلاء على بلدية القدس والبلديات الفلسطينية الأخرى، ومنعاً لتكبيد الشعب معاناة شديدة نتيجة انقطاع الخدمات التي تقدمها البلديات إليه ؛ ولكنه في الوقت نفسه لم يعارض مشاركة البلدية في دعم الإضراب بكل ما تملك من إمكانيات.ويعود الفضل لفهمي الحسيني في إنشاء منطقة غزة الجديدة أو ما يسمى حالياً (حي الرمال) ولقد رأى بما أوتيّ من حكمة وبصيرة أن يتجاوز حدود البلدة القديمة، ويعمل على إعمار المناطق المحيطة بالمدينة، وكانت هذه الأراضي بحكم قانون الانتداب ملكاً للحكومة وتتكون من كثبان رملية وتمتد إلى شاطئ البحر، فمد العمران فيها تجاه البحر، ومن أجل تشجيع هذا التوجه أنشأ حديقة عامة "المنتزه" ، وحفر بئراً للمياه ، وقام بمشروع تقسيم الكثبان الرملية إلى قسائم وزعها على الراغبين من السكان بثمن رمزي وبالتقسيط المريح .
يؤكد الكثير من المؤرخين والساسة أن إنشاء حي الرمال حال دون قيام الانتداب البريطاني بتسليم هذه الأرض لليهود وإنشاء مستعمرات يهودية فيها، كما فعلت في مناطق أخرى على الشريط الساحلي الفلسطيني؛ وبهذا يكون فهمي الحسيني قد أسدى عملاً وطنياً كبيراً لشعبه عندما قام بتوسيع المدينة من جهة، وحال دون سيطرة اليهود على غرب غزة وإنشاء تجمع سكاني أو حتى مدينة لهم كما حدث في المدن الساحلية الفلسطينية الأخرى عندما أنشأوا مدن عديدة منها: تل أبيب ، وبات يام .
دخل فهمي الحسيني معترك الحياة السياسية ، وظل يخوض عبابها دون انقطاع تقريباً حتى أخر حياته ، وشارك ممثلاً لمدينة غزة في المؤتمر العربي الفلسطيني السادس الذي انعقد في مدينة يافا عام 1923م .
كما كان فهمي الحسيني من الأعضاء المؤسسين للحزب الحر الفلسطيني الذي أنشئ عام 1927م؛ وقبيل انضمامه إلى حزب الإصلاح العربي الفلسطيني عام 1935م انضم فهمي الحسيني فترة وجيزة لحزب الدفاع العربي الذي تأسس عام 1934م برئاسة راغب النشاشيبي .وبعد ظهور أحزاب الدفاع الوطني ، والعربي الفلسطيني ، ومؤتمر الشباب ، أسس فهمي الحسيني رئيس بلدية غزة ، وحسين الخالدي رئيس بلدية القدس ، وعيسى البندك رئيس بلدية بيت لحم "حزب الإصلاح" ، وأعلنوا عن قيامه في 7/6/1935م الذي انضم إليه لاحقاً عدد من رؤساء البلديات وبعض الوجهاء؛ كما اختير فهمي بك الحسيني عضواً في اللجنة التنفيذية لمؤتمر الأمة الإسلامية الفلسطينية ؛ وقد كان فهمي الحسيني عضواً بارزاً في مؤتمر اللجان القومية الذي انعقد في مدينة القدس في 7/5/1936م؛ كما كان عضواً في المؤتمر العربي القومي الذي عقد في مدينة بلودان في سوريا عام 1937م .خاطب الحسيني عدوه باللغة الهادئة التي تستند إلى العقل والمنطق، فقام بمخاطبة المندوب السامي البريطاني في كتاب مفتوح وجهه إليه في 10/5/1936م ، أي بعد انطلاق الإضراب الكبير بأيام قليلة ضمنّه شرحاً مستفيضاً لوضع فلسطين في ظل الأطماع اليهودية الصهيونية وإصرار الحكومة الانجليزية على تطبيق وعد بلفور ، محذراً من أن ذلك سيجر على الانجليز نقمة 400 مليون مسلم في العالم من أجل بضع مئات الآلاف من اليهود ، واحتوى الكتاب أيضاً على شرح لممارسات اليهود في فلسطين التي أسماها "طيش اليهود" ، كما تضمن الكتاب أسس تأمين السلام في فلسطين وسبل تلافي حرب عنصرية مستمرة في فلسطين؛ كما كان فهمي الحسيني من نخبة الشخصيات السياسية الفلسطينية التي التقتها اللجنة الملكية التي أرسلت إلى فلسطين أواخر عام 1936م، للبحث في عوامل الأزمة في فلسطين وأسباب الصراع؛ وقدم مذكرة احتوت على شرح واضح ومسهب لوضع فلسطين قبل الانتداب وخلاله ، والتبعية الكاملة من قبل حكومة الانتداب لليهود وتنفيذها اللامشروط لمشيئتهم، مشيراً إلى أن انحياز حكومة الانتداب الكامل لليهود بالأدلة والبراهين في 34 بنداً متنوعاً سياسياً واقتصادياً وأمنياً وعسكرياً واجتماعياً، مختتماً مذكراته باعتبار ما تقوم به بريطانيا بحق العرب جناية فظيعة وجريمة كبرى يجب وقفها فوراً.كما أعد فهمي الحسيني بحثاً تحليلياً مفصلاً حول التقسيم الذي اقترحته اللجنة الملكية لفلسطين بين العرب واليهود تمت طباعته وتوزيعه عام 1937م. كان من الطبيعي أن توغر نضالات فهمي الحسيني الوطنية والسياسية والإصلاحية صدر سلطة الانتداب ضده فتآمرت عليه واعتقلته في معتقل صرفند أواخر عام 1938م ، وعزلته من رئاسة البلدية وهو رئيسها المنتخب، وقد مكث في المعتقل ثمانية شهور ، ولم يرهب تنكيل سلطات الانتداب له ، بل ظل لسان بلاده الغاضبة الثائرة ، وكانت كلماته في الدفاع عن قضيته تدوي في الآفاق فيتلقفها المخلصون من أبناء وطنه في كل مكان، إلى أن لبى نداء ربه في 25 /12/1940م ، ودفن في المدينة التي ولد ونشأ وترعرع فيها وشيع جثمانه في جنازة مهيبة شارك فيها سكان المدينة عن بكرة أبيهم ، وشخصيات بارزة وطنية وشعبية من جميع أنحاء فلسطين بالإضافة إلى رؤساء بلديات فلسطين، وانهالت برقيات التعازي والمواساة من جميع أنحاء الوطن العربي والإسلامي معزية بوفاة الفقيد الكبير... لقد أسهم فهمي الحسيني في إثراء مدينة غزة في معظم المجالات ، وكانت البلدية في عهده مؤسسة فلسطينية وطنية تتلاحم مع الجماهير ، وتشارك في مختلف القضايا ، هذا بالإضافة إلى مشاركة فهمي الحسيني كوجه بارز من وجوه العمل السياسي والوطني الفلسطيني .
بقي أن نذكر أن فهمي الحسيني تزوج أربع مرات ، زوجته الأولى "لمعة" وهي تركية الجنسية ، اقترن بها وهو يدرس الحقوق في تركيا ، ورُزق منها بنتاً واحدة "فايقة" ؛ أما زوجته الثانية فهي "سعاد سعيد أبو خضرا" ، رُزق منها : فاروق ، وفايق عبد الحي ، وإنصاف ، وليلى ، وعايدة ؛ أما زوجته الثالثة فهي : وصفية محي الدين الحسيني ، ورُزق منها : هشام ، وحورية ، وعبلة ، وسهير ؛ أما زوجته الرابعة والأخيرة فهي مصرية الجنسية ، ورُزق منها نجله الأصغر " أمين "
=================
E- nassermhs-1966@hotmail.com
فيسبوك // د. ناصر محمود الصوير 
باحث وكاتب ومحلل سياسي مقيم في غزة