المسؤولية الإسرائيلية في الصراع الديني ...مهند عبد الحميد

الثلاثاء 25 يوليو 2017 12:51 م / بتوقيت القدس +2GMT
المسؤولية الإسرائيلية في الصراع الديني ...مهند عبد الحميد



توحد المقدسيون وأجزاء متزايدة من الشعب الفلسطيني في الدفاع عن المسجد الأقصى، وتقف شعوب عربية وإسلامية على أهبة الاستعداد للانضمام إلى الشعب الفلسطيني بشكل وآخر. فيكفي وقوع حادث دراماتيكي في منطقة الحرم القدسي لإشعال فتيل الانفجار داخل وخارج فلسطين. آلاف المقدسيين تنادوا للدفاع عن المسجد الأقصى، لا بفعل التحريض كما تقول سلطات الاحتلال، وإنما بفعل الإجراءات الإسرائيلية الملموسة التي كان آخرها الكاميرات والبوابات الإلكترونية والتي تضع المكان المقدس داخل قبضة أمنية عسكرية محكمة.
الدفاع عن المسجد الأقصى لا يقتصر على البعد الديني رغم احتلاله مكان الصدارة في هذه اللحظة، بل هناك أبعاد أخرى، فالمسجد المقدس يوفر الحيز الحر نسبياً للمقدسيين خاصة ولأكثرية الشعب، الذين يستطيعون إشباع عالمهم الروحي عبر التعبد الذي يوفر لهم الراحة النفسية والاستقواء بالله لحل مشاكلهم وتخفيف معاناتهم. لقد أحس المقدسيون بأنهم على وشك الافتقاد لعامل التماسك والقوة (العلاقة الروحية الحميمة بالمكان) الذي جعلهم قادرين على الصمود والاحتمال في مواجهة الانغلاق والانسداد. والحيز العام الذي يمثله المسجد الأقصى، يسمح للنساء- نصف المجتمع - اللواتي يعانين من الظلم والتمييز الاجتماعي والاستبداد الذكوري من التنفس والتقاط جزء من الراحة، فضلاً عن التعبد والاستقواء بالله. وهذا يفسر التواجد النسائي الكبير في هذا المكان. 
المسجد الأقصى حيز عام، له بعد ديني مقدس، وله أبعاد أخرى اجتماعية وثقافية ووطنية، تلك الأبعاد التي لم تُقرأ كما يجب. فالحيز العام هو ملتقى للتعبد وللتفكير والبحث في الأوضاع العامة والحريات التي يشكل الاحتلال الكولونيالي كابحاً لها. كان المسجد الأقصى والمنطقة المحيطة به، وكانت كنيسة القيامة والمنطقة المحيطة بها، حيزين للديانتين الإسلامية والمسيحية، وفي الوقت عينه كانا حيزين لكل الشعب بمعزل عن الانتماء الديني، غير أن سلطة الانتداب البريطاني لجأت إلى ربط كل حيز ببعده الديني الخاص فقط وميزت بين دين وآخر لإضعاف وحدة الشعب الوطنية ضد الانتداب والمشروع الصهيوني. والآن تقوم دولة الاحتلال بشطب الحيز العام للمسجد الأقصى ووضعه في قبضة أمنية محكمة. وتعمل بشكل منهجي لتحويله إلى حيز ديني منفصل عن الحياة ومتطلبات العيش بحقوق إنسانية ووطنية ومدنية. إنها تريد من المسلمين أن يمارسوا شعائرهم الدينية بتصريح من سلطات الاحتلال بمعزل عن الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان، وبمعزل عن رسالة الدين. نعم تريد سلطات الاحتلال من المواطنين ممارسة شعائرهم والسكوت على نهب وسرقة الموارد وخاصة الأرض، والسكوت على التمييز بين دين وآخر وبين عرق وآخر. تريد من الفلسطيني أن يصلي في المسجد الأقصى ويقبل بالاحتلال العسكري وبنظام الفصل العنصري، وبتهويد مدينته. تريد من الفلسطيني أن يصلي ويتحول إلى عبد يعمل في خدمة «أسياده» الإسرائيليين.
لم يقبل الشعب الفلسطيني والمقدسيون على نحو خاص بمعادلة أسياد / عبيد، والدليل على ذلك، هو رفضهم القاطع للبوابات الإلكترونية والكاميرات ولكل الإجراءات التي تحاول فرض سيطرة على المسجد الأقصى وشطبه كحيز عام توطئة لتقاسمه وتحويله، وتوطئة لفرض الاستسلام على المقدسيين والفلسطينيين لمصلحة غطرسة القوة. 
ما يجري في الواقع من التعامل الشعبي العفوي الفلسطيني مع الحيز العام بأبعاده المتنوعة والمترابطة والتي لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، لا ينعكس في الخطاب الديني والسياسي والإعلامي إلا ضمن هوامش ضيقة جداً. هذا الاختلال يضعف الحضور السياسي الفلسطيني ويخلف فراغاً يشجع الآخرين على ملئه، ومحاولة التقرير نيابة عن أصحاب الشأن. 
لقد كشفت معركة البوابات الإلكترونية حقيقة عن أن من يقرر على الأرض، من يقبل أو يرفض، من يسمح أو لا يسمح هم المحتجون والمحتجات على الأرض. أو كما قال الكاتب الإسرائيلي نير حسون: «إن صاحب السيادة الحقيقي في الحرم هم الفلسطينيون المقدسيون». 
ولكن من يقرر على الأرض بحاجة إلى دعم سياسي يحول معركة البوابات والكاميرات إلى معركة ضد احتلال المدينة وضد الاستباحة الإسرائيلية للحقوق الوطنية والتاريخية والمدنية والإنسانية، ويدمج العامل الديني بالعامل الوطني والاجتماعي والثقافي في إطار التحرر الوطني والخلاص من الاستعمار الاستيطاني وتقرير المصير. من يقرر على الأرض بحاجة إلى دعم مادي في مجال التعليم والصحة والإسكان والعمل والثقافة والفن.
ثمة بون شاسع بين حاجة من يقرر على الأرض واستجابة المستوى السياسي (منظمة، سلطة، معارضة، وكافة التنظيمات الكبيرة والصغيرة)، وبون شاسع بين التغيير المنهجي الإسرائيلي على الأرض والسياسات والإجراءات الفلسطينية المضادة للتغيير، وبون شاسع بين الحاجة والاستجابة، وبين البيروقراطية السياسية والتنظيمية والعمل الميداني في معمعان الصراع، وبون شاسع بين العفوية والعمل المنظم، بين رد الفعل والسياسة القائمة على التخطيط المسبق، وبون شاسع بين امتلاك مشروع له ديناميات تطور داخلية وبين التهديد والوعيد والخطابات المزلزلة التي لا تزلزل شيئاً. البون الشاسع بين هذا وذاك هو عنوان اللحظة الفلسطينية الراهنة. 
ما يهم راهناً هو رفض التحول من الصراع الوطني الذي للدين مكانة مهمة داخله، إلى صراع ديني بحت. وهذا يستدعي كشف الألاعيب الإسرائيلية في استخدام العامل الديني لتسويغ الاحتلال الدائم والسيطرة على مدينة القدس، فالحكومات الإسرائيلية تستبدل القانون الدولي بكل عناصره، بأيديولوجيا دينية تعصبية، وتستبدل منظومة معايير التراث العلمية المعتمدة من قبل منظمة اليونيسكو ومكتشفات الآثار والدراسات التاريخية، بأيديولوجيا دينية تعصبية. تلك الادعاءات التي لها ترجمات على الأرض في التعامل مع المسجد الأقصى بزعم أنه مقام على أنقاض الهيكل. ولعل أخطر الترجمات هو وجود جماعات ومنظمات جبل الهيكل التي تدعو إلى بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى. هذه الجماعات التي تقوم باقتحام المسجد الأقصى والصلاة داخله باسم حرية السياحة التي تحرص عليها حكومة نتنياهو. هؤلاء يدخلون المسجد الأقصى ويتسببون في استفزاز المشاعر الدينية الإسلامية وفي خلق التوتر القابل للانفجار. الحفريات أسفل المسجد واقتحامه من قبل جماعات الهيكل ووزراء وأعضاء كنيست متطرفين، وتغيير المعالم المحيطة به، وتدمير البيوت الفلسطينية وسرقة أو شراء بعضها بأساليب ملتوية والتمييز والتطهير العرقي في المكان، كل هذه السياسات تحول الصراع إلى صراع ديني مفتوح. لكن دولة الاحتلال ويا للمفارقة تريد استخدام الدين واعتماد الادعاءات الأيديولوجية من طرف واحد، تمشياً مع منطق غطرسة القوة. وهي تعلم أن الصراع الديني ليس في مصلحتها إذا ما انخرطت الشعوب الإسلامية فيه. وهي تحاول استخدام الدين من طرف واحد بغض نظر من دول عربية وإسلامية، غير مدركة أن الدول شيء والشعوب شيء آخر.

Mohanned_t@yahoo.com